راسلتني سيدة من مقاطعة في كندا، تخبرني عن بحثها عن مدرسة بديلة لأطفالها الذين يذهبون يوماً في عطلة نهاية الأسبوع لتعلم العربية والإسلام. قالت إن أطفالها في التاسعة والسابعة ولكنهما يعودان ليخبراها بأن من تمر عليه صلاة سيحرقه الله في النار، وبأنه عليهما قراءة سورة الملك يومياً، حتى يُخفّف عنهما عذاب القبر وظلماته. كانت متوترة من هذه الطريقة في التعليم وكتبت لي بأنها ذهبت إلى المدرسة، وتحدثت مع المدرسين والقائمين. ولكن لم يفهموا عليها نهائياً، ولم يتفهموا وجهة نظرها. كانت تشعر بالإحباط وتبحث عن طرق أخرى لتعليم أولادها العربية والقيم الإسلامية.
أتفهم وجهة نظر القائمين على المدرسة الإسلامية. هذا مبلغ علمهم، ولن يستطيعوا الهرب من سفينة قد تم اختطافها من 1400 عام. ولذا فإن هؤلاء الأطفال كلما كبروا و"تفقهوا" في دينهم، سيتعلمون تفاصيل "فيلم الرعب" الذي أنتجه وأخرجه فقهاء الدين في قصور السلاطين وفي الأحياء، بعد أن عدنا وتكيفنا مع الاستبداد، وبعد أن أعيد تدجين الدين ليصير مجرد خادم.
هناك تفاصيل عن عذاب القبر وتحقيقات سيجريها منكر ونكير مع الميت تجعل الموت مدخلاً أصعب من شقاء الحياة. تجعل الأفق قد سد للخروج من عالم الاستبداد في الحياة الدنيا. حتى بعد الموت ستكون هنالك عودة لأقبية مخابرات وقضاة العالم الأرضي. أي لا فكاك من ملاحقة المحققين وضيق الزنزانة وضيق الأفق هنا أو هناك.
هذه صور وخيالات أقرب إلى الأساطير الفرعونية والآشورية وأقرب لواقعنا في المنطقة حتى لو كنا ندعي السلام والرحمة ونسمي أنفسنا مسلمين.
ما الذي يحدث؟ لماذا نحن معتقلون داخل منظومة المعاقبة في سجن كبير، اعتنى به الكثير من الحكام، وخدم بلاطهم عبر القرون، ليرفعوا أسواره، حتى لم يعد بمقدور طفل أن يحلم بالسماء والشمس وجنات تجري من تحتها الأنهار، وحياة متحركة متوسعة تنبض بالحب والرحمة.
يغار المسلمون في العالم إذا تم المس بالتعاليم الإسلامية، الشرعية والمنتجة، ولا تهز ضميره الانتهاكات التي تمارس على المواطنين والمواطنات.
كما في كل الأديان ركز الإسلام في بداياته على العدالة الاجتماعية، واعتمد في هذا على تزكية النفس، وتنقية القلوب، وضبط السلوك، وإيقاظ ضمير الفرد، وتوسيع مساحة شعوره بالمسؤولية تجاه كل شيء حوله. لكن سرعان ما أعيد اعتقال هذه المنظومة داخل زنزانة الحاكم المستبد ليعاد تصنيع إسلام يخدم الطاغوت والسلطة، فتحول الدين لنوع من الكهنوت المبرمج.
هذا النموذج البديل يرتكز بشكل أساسي إلى نسف الفرد وقيمته، عبر نسف استقلال تفكيره وتأمله بمفاهيم الزندقة ويقتل فيه روح المسؤولية والمبادرة باسم طاعة أولي الأمر. وفوق كل هذا يسود ظل قاتم من جبل العقوبات الذي يهدد الفرد في الحياة الدنيا برجم وتعذيب وضيق في الزنزانة ليلاحقه بعد الممات بالمنكر والنكير وعذاب القبر وضيق الّلحد.
تخيلوا معي أنكم زرتم مدينة في العالم، ولكن في اللحظة التي وصلتم بها إلى المطار، تم تكميم عيونكم ولم تروا شيئاً من معالم المدينة، ثم نُقلتم مباشرة إلى مبنى القضاء، ومكاتب الشرطة ثم زيارات في السجون، وإن كنتم في مدينة عربية، ستنهارون من وحشة التحقيق والتعذيب.
لم تسنح لكم الفرصة لدخول مسجد أو مكتبة أو متحف. ولم تجلسوا في حديقة. ولم تحضروا محاضرة علمية في جامعة. ولم تزوروا عوائل، ولم تروا أطفالاً ولا نساء. كنتم فقط في قاعات القضاء والسجون. قابلتم المؤسسة القضائية في البلد، وجيوشاً من المحامين وجحافل من الأمن والشرطة والعسكر.
هذا هو الإسلام حالياً. بعد أن تم اختطافه من قبل السلطات، التي احتكرت الحكم ووضعت القانون تحت سيف جُند الفكر الإسلامي، وأعطت مفاتيح السفينة للفقهاء والجند (وبالتعبير العصري للمحامين والمحقّقين والسّجّانين والعسكر).
خيالات الخلافة، لا تبعد عن بلاط الفرعون وجنده، الذين يرفعون السيف في وجه الفقراء والنساء والمستضعفين. وليس غريباً أنه منذ اللحظة الأولى التي يتعلم فيها الطفل الصغير مبادئ دينه، يُؤخذ في دورات من أفلام الرعب، حتى لو كان كندا، مع أنه لا يحتاج أن يكون خائفاً، أو أن يسمع أشياء يشيب لها الولدان.
ورّثنا "تراثاً" صُمّم ليخدم الفرعون وسجّانه ومحقّقه في الحياة الدينا وفي الآخرة. فهم الدين صار مرآة لمفاهيم تخدم مصالح المترفين والمستبدين، وصارت الآخرة "فيلم رعب" أنتجوه وأخرجوه للمستضعفين في الأرض.
نركب في سفينة مختطفة، زُجّ العقل والضمير والفن والأدب والعلوم في أقبية الخاطفين. ولن تتحرّر السفينة بدون إطلاق سراح التفكير، وسراح العقل والضمير.
*مقالات الرأي تعبّر عن وجهة نظر كتّابها، ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر "روزنة".
*تم نشر هذا المقال بموجب اتفاقية الشراكة بين روزنة وهنا صوتك