مع سقوط صنعاء بيد الحوثيين المدعومين من إيران، ترن في دهاليز الذاكرة عدة أحداث لتُقرأ اللوحة كاملة على ضوئها: دخول حزب الله إلى بيروت عام 2008، وتحوّل بغداد إلى موقع نفوذ إيراني بشكل مطلق منذ عام 2011 بعد رحيل القوات الأمريكية، والإعلان عن تشكيل حزب الله السوري (2014)، وهو الأهم والأخطر!
إنّ قراءة الأمر الأخير (حزب الله في سوريا) على ضوء ما يحصل اليوم في صنعاء يعطينا صورة مبكرة عمّا قد تؤول إليه الأحداث السورية لاحقاً، خاصة مع استنقاع الصراع السوري في حالة "لا غالب لا مغلوب" بما يضعف كل طرف داخلي أمام رعاته الإقليميين، وبما يؤدي إلى تنازل الأطراف الداخلية عن باحاتها وقواها الاجتماعية لهذا الخارج ليضع أسس مشاريعه، التي تجعل من تلك الدواخل ملحقاً تابعاً في خدمة استراتيجياتها.
تقوم الاستراتيجية الإيرانية على تطويق المنطقة العربية عبر استخدام أدوات داخلية ذات قوى اجتماعية/ أهلية، مرة تحت ستار البعد الشيعي، متضمناً التشييع السياسي الديني، وتارة تحت ستار المقاومة، إذ بمجرد ما تتخذ إيران موطئ قدم لها حتى تنتقل خطوة إلى الأمام عبر تسليح تلك المجموعات وتدريبها لتصبح نوعاً من "جيوش" موازية، إذ من الملاحظ في الحالات الثلاث السابقة أن نمو الجيوش الطائفية/ الميليشياوية تنمو بالتوازي مع ضعف الجيوش الوطنية من بيروت إلى بغداد فصنعاء فدمشق، التي يجري العمل عليها اليوم ضمن هذا السياق، بالتوازي أيضا مع محاولات تمنع عودة تلك الجيوش لأخذ دورها الوطني الفعّال، لتصبح الميليشيات أقوى من الجيوش الوطنية، فتجتاح العواصم والبلدان لتفرض الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، إذ قالها مؤخراً وبوضوح الكاتب الإيراني "محمد صادق الحسيني"، بأن الحوثي هو سيد اليمن اليوم، كما كان سابقاً "حسن نصر الله" سيد لبنان، فمن يُعدّ سيّداً لسوريا اليوم؟
مع تحوّل الثورة السورية نحو العسكرة وعدم قدرة الجيش السوري على حسم الأمور، ذهب النظام نحو عسكرة المجتمع الذي أنتج بدوره ما بات يعرف اليوم بجيش الدفاع الوطني، الذي شُكّل وفق نصيحة وإشراف إيرانيين، كما قال اللواء "حسين همداني"، معلناً ولادة "حزب الله السوري".
لا يمكن فهم ما سبق دون الانتباه للمرسوم الجمهوري الموقع من الدكتاتور السوري والقاضي بتأسيس مدرسة "شرعية شيعية"، لتدريس المذهب الجعفري في "رأس العين" التابعة لمدينة جبلة الساحلية. وإذا عرفنا أن أعداد الشيعة في جبلة قليلة إن لم تكن معدومة، فسندرك أن القرار يرمي إلى أبعد من ذلك، حيث يجري العمل على قدم وساق لاستهداف البيئات العلوية بهذا النشاط لخلق حواضن اجتماعية للسياسات الإيرانية الآن ومستقبلاً، عبر دعمها بالمال والخدمات الاجتماعية لكي تكون رديفاً لحزب الله السوري، ليغطي النقص الحاصل في تراجع وضعف الجيش السوري، إذ تدرك طهران جيداً، أنّ أيّة تسوية قادمة لن تترك الجيش كما هو اليوم، لذا تعمل على إيجاد بدائل تفرض نفسها على أرض الواقع قبل حلول تلك التسوية. وهنا تعمل إيران على المدى البعيد على تغيير أنماط العيش والأفكار في المجتمعات المحلية لتصبح أكثر قرباً وتواءماً مع الرؤية الإيرانية، أي يجري العمل على خلق حواضن اجتماعية وفكرية للامتداد الإيراني مدعوماً بقوتي المال والسلاح، وليست الطقوس العاشورائية التي شهدناها في دمشق وغيرها من العواصم إلا تجسيدا حيّاً لذلك.
تفكر إيران منذ اليوم بتأهيل النظام السوري من جهة، وخلق المبررات التي تبعد عنه شبح التغيير لاحقاً، بحيث تعمل على إيجاد قوى تكون قادرة على تعطيل المرحلة الانتقالية وإدخالها في حمى التفاصيل الجزئية، كما هو جارٍ في لبنان واليمن والعراق اليوم، حيث الحسم للسلاح حين لا تفيد السياسة، وهي وظيفة حزب الله السوري، كما هي وظيفة أحزاب الله الإيرانية من صنعاء حتى بيروت وبغداد.