سنوات من الكوارث المتتالية والمزيد من ارتهان النظام والمعارضة للخارج، كشفَا سوريا على التدخلات والتداخلات بشتى جنسياتها وأنواعها. واستنقاع مزمن لنزاع مسلّح لن تغيّر ادّعاءات أطرافه وأهدافهم المزعومة من كونه محض صراع على السلطة، سواء للحفاظ عليها أو لبلوغها بأيّ ثمن كان. علاوة على ازدهار المشاريع الجهادية في سوريا. كل هذا وما زال رهطٌ من الكتّاب والمثقّفين والنشطاء والسياسيين المعارضين لا يملّون، صباحاً مساءً، من تكرار لازمة "الثورة السورية" و"ثورة الشعب السوري"، أو ما شاكلها من عبارات حيال ما يجري في سوريا.
وعلى افتراض وجود اعتقاد لدى هؤلاء بأنّ ثمّة شيءٌ ما يحمل إلى الآن بعضاً من ملامح تلك الانتفاضة الشعبية أو الثورة السوريّة التي كانت ذات ربيع غابر، فإنه بمتابعة كتاباتهم وأحاديث نجوم القنوات الفضائية منهم، بات خير وصف لخطابهم هو "صف الكلام الثوري"، وخير ما يوصفون به أنهم "ثوراويون".
و"مرض صفّ الكلام الثوري" تعبير استخدمه لينين في سياق تناوله لأولئك "الثوريين" الذين يعجزون عن تحليل وفهم الانعطافات الكبيرة والسريعة التي يكشفها مجرى الأحداث، فيواظبون على تكرار الشعارات الثورية من دون أن يأخذوا بالاعتبار الظروف الموضوعية الناشئة عن وقوع انعطاف معين في الأحداث وبالتالي يصابون بهذا المرض.
من هنا جاز القول عن ثوريي المعارضة السورية إنّهم مصابون بمرض "صف الكلام الثوري"، وذلك استناداً إلى تمسّكهم بالشعارات البرّاقة والصورة الوردية الملونة، وإصرارهم على حالتهم الفصامية المتعالية عن رؤية الواقع الكامد وراياته السوداء. حيث يتحفون الجمهور بأفكار وتصورات تمعن في تجاهل ما آلت إليه الأحوال السورية، وما طرأ على البلاد من معطيات لم يعد معها الحديث عن "ثورة" يمتّ إلى الواقع بصلة.
وكغيره من الأمراض ثمّة درجات هنا، إذ يشتدّ الحال ببعض المصابين ليصل إلى درجة "الهبل الثوراوي"، حسب تعبير لينين أيضاً. من الجدير ذكره أنّ بعض هؤلاء لا يكفّون عن الاستشهاد بمقولات لينين ويواصلون ادّعاء انتمائهم إلى الماركسية!
أمّا المقصود بـ "الثوراوية" فهو المعنى عينه الذي أراده الراحل ياسين الحافظ، حين استخدمه في العديد من نصوصه النقدية. أي الانتماء السطحي، الكاريكاتوري، الدوغمائي، الشعوري أو ما فوق الثوري إلى قضية الثورة، وليس الانتماء العميق، العقلاني لها.
وإذ أكّد الحافظ أن وصف الثوراوية لا ينطوي على حكم قيمة، أي إنّه لا يشكك "بالنيات الطيبة للثوراوي"، وفق تعبيره، فإنّ واقع حال الثوراويين السوريين يسقط إمكانية القول "بالنيات الطيبة" لديهم. فإنّ تهافتهم على فتح دكاكين تتموّل من هذا وذاك باسم "الثورة"، والفضائح المالية وروائح الفساد والسرقة التي تزكم الأنوف تدفع إلى الجزم بأنّ الإصرار الخطابي على "ثورة" لم تعد موجودة ليس أكثر من بابٍ للتكسّب والارتزاق على حسابها.
إنّ كل قتال داخلي بهدف السيطرة على الحكم أو فصل جزء من الدولة أو الهيمنة عليه، سواء اتخذ شكلا دينيا أو مذهبيا أو سياسيا أو عرقيا أو غير ذلك، يندرج تحت مسمّى الحرب الأهلية. وكذا الصراع المسلح بين فريقين أو أكثر، أو بين جيش نظامي وميليشيات مسلحة، أو بين فصائل مسلحة سياسية أو دينية أو مذهبية أو إثنية، تشترك حيناً وتشتبك فيما بينها أحيانا. والمشهد السوري الراهن ينطوي على كلّ ما سلف لكنّ أحداً من أقطاب الحرب الأهلية في سوريا لا يريد الاعتراف بها.
هكذا ضاعت البلاد بين تجار القضايا: نظام استبداد لا يكفّ عن أدلوجة الممانعة وخطاب المؤامرة، ومعارضة ثوراوية امتهنت الارتزاق ولا تتوقّف عن المتاجرة بقضيّة الشعب السوري وحقّه بالحرية والكرامة.
-------------------------------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرروة عن توجهات روزنة