تجتاز تونس مراحلها الانتقالية بنجاح ملحوظ قياساً على بقية دول "الربيع العربي". وقد كانت الثورة التونسية، ولا زالت، هي الثورة العربية الأقل عنفاً وتكلفة ضمن كوكبة الثورات التي يشهدها العالم العربي منذ مطلع عام 2011، وفي الوقت نفسه هي الثورة الأكثر إنجازاً على مسار خلق مسافة كافية بين السلطة والدولة وفي السياق عينه بين الشخص والمنصب، وهو ما يشكل في بلداننا الخطوة الأولى على طريق بناء الدولة الحديثة فعلاً لا شكلاً. هذا ما يجعل من التجربة التونسية اليوم، كما كانت في الأمس، مصدر أمل ومحرض على التغيير، في الوقت الذي تحولت فيه تجارب "الربيع العربي" إلى نماذج سلبية في الوعي العام، نماذج للتشاؤم من التغيير ولإسكات نداء الحرية في ضمائر الشعوب. وليس من الباطل أن نعزو النجاح التونسي إلى حكمة قيادة حركة النهضة (التيار الإسلامي السياسي في تونس) من ضمن عوامل أخرى.
في انتخابات الجمعية التأسيسية في تشرين الأول 2011 حصلت النهضة على 89 مقعداً من أصل 217، أي أكثر من 37%. وكان الحزب التالي في الترتيب هو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي حصل على 29 مقعداً فقط، أي حوالي 8.7%. لم يكن إذن ثمة حزب سياسي كبير يمكن أن يعدل من سيطرة النهضة. غير أن النهضة مع ذلك امتنعت عن الجمع بين منصبي رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، ودعمت ترشيح سياسيين آخرين من خارج حركة النهضة لرئاسة الجمهورية، كان من بينهم باجي قائد السبسي (الذي اصبح لاحقاً زعيم نداء تونس الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة). وقد تكلم حينها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بفكرة الديموقراطية التوافقية، كبديل عن ديموقراطية الأغلبية رغم حيازة حركته للأغلبية، كأداة مهمة في المرحلة الانتقالية، وعلى هذه الفكرة بنى تحالف (الترويكا) مع حزبين علمانيين، تخلى لأحدهما عن منصب رئاسة الجمهورية (المنصف المرزوقي من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية) وللآخر عن منصب رئيس المجلس التأسيسي (مصطفى بن جعفر من حزب التكتل). ولم تتمسك النهضة لدى وضع الدستور الجديد لما بعد الثورة بأن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين. وقد برر الغنوشي موقفه هذا بالقول: "لم نر فائدة من تقسيم المجتمع التونسي إلى معسكرين: معسكر الشريعة ومعسكر الرافضين للشريعة". كما حددت حركة النهضة موقفاً "علنياً" واضحاً من التيار السلفي واعتبرته تياراً إرهابياً.
لا شك أن قادة "النهضة" تأملوا تجربة الإسلام السياسي في الجزائر (جبهة الإنقاذ)، وتجربته في سوريا 1982 واليوم، وتجربتهم الخاصة في تونس في انتخابات 1989 حيث يقولون إنهم حققوا أكثر من 40% من الأصوات لكن السلطات التونسية لم تعترف بذلك، وكذلك تأملوا تجربة طالبان في أفغانستان، فضلاً عن التجربة المصرية مؤخراً، واستنتجت أن: (السياسية لا يحكمها الكم فقط، فلا يكفي أن تقول إن معي الأغلبية حتى أقرر ما أشاء أو أسن ما أشاء من القوانين، المعادلة السياسية يتحكم فيها الكم ويتحكم فيها الكيف ربما بشكل أكبر.) على ما يقول الغنوشي.
حكمة النهضة تجلت في تحاشي الاصطدام مع المجتمع التونسي "العلماني"، وفي هذا مرونة تحسب لها، وإن كان لصاحب منطق سينيكالي أن يقول إن النهضة "حكمت العقل" كي تحمي نفسها وليس لكي تحمي المجتمع التونسي. مع ذلك فإن مرونة النهضة جنبت تونس والتونسيين مآلات كارثية يتذوق مرارها اليوم السوريون والمصريون والليبيون. غير أن ما يجفف نبتة الأمل بالإسلام السياسي التي كان يمكن لتجربة النهضة في تونس أن تكون تربتها المناسبة، حقيقة أن تونس شكلت في ظل حكمها (2011-2014) المصدر الأكبر للسلفيين الجهاديين إلى سوريا والعراق. وتقول تقارير إن راشد الغنوشي نفسه يبارك هجرة الجهاديين هذه. وتشير التقارير نفسها إلى أن غالبية هؤلاء الجهاديين هم من خارج مناطق سيطرة النهضة، اي إن النهضة بتسهيلها هجرة الشباب التونسيين للجهاد في سوريا والعراق إنما تخفف من عبء هؤلاء السلفيين عليها وترتاح من ثقل تطرفهم، فضلاً عن أنها ترضي بذلك فروع التنظيم العالمي الذي يأخذ على النهضة مهادنتها العلمانيين. وبكلام آخر: إن النهضة تمارس "ديموقراطية" في تونس وإرهاباً في سوريا، كما فعل حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) التركي. هكذا تبدو النهضة بوجهين، وجه يحتفل (بالعرس الانتخابي) ويقر بفوز "الآخر"، ووجه يسهّل، أو يغض الطرف على الأقل، عن خروج "الجهاديين" التونسيين للمساهمة في تدمير آمال السوريين.
المرض الذي من المتعذر للإسلام السياسي البراء منه هو إيمانهم بأنهم خلفاء الله في الأرض، وهذا الإيمان يبيح لهم ممارسة كل صنوف السياسة طالما أنهم يعتقدون أن في ذلك "إعلاء لكلمة الله"، كما يلغي في أذهانهم مبدأ الإقرار بالتساوي مع الآخر، إذ كيف يتساوى من هو خليفة الله في الأرض مع أي "آخر" حتى لو كان هذا الآخر إسلامياً أيضاً. في هذه الحالة يثبت الطرف "خلافته" إذا تمكن من سحق الطرف الإسلامي الآخر وانتزاع المبايعة منه. الآخر في منظور الإسلام السياسي هو في ضلال طالما بقي "آخر"، والتعايش معه يبقى مؤقتاً إلى حين امتلاك القوة الكافية لإلغائه كآخر (عبر تحييده أو انضمامه إلى الجماعة - الذات)، أو لإخضاعة حتى يصبح "آخر" خاضعاً، حينئذ يمكن قبوله.
------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة