قامت كل سردية الموالاة في العمق على معاداة شعار الحرية الذي جعلته الثورة السورية أيقونتها طوال أشهر طوال، وذلك عبر شعار مضاد تجلّى بالتهكم المعروف "بدكن حرية"، اعتقاداً منهم أن "الحرية" القادمة ليست إلا منتجاً قطرياً أمريكياً إسرائيلياً وهابياً، يهدف لـ "تخريب البلد" ودفعه في أتون "الإرهاب"، بعد أن نجح النظام في تحييد تلك الفئات وعزلها بما يتيح له التحكم بها.
ولكن تطوّرات الحالة السورية المعقدة، وفاتورة الدم الكبرى التي بات يدفعها هؤلاء، وضعف النظام وتراجعه، أدّت تدريجيا إلى تراخي قبضة النظام وفك عزلتهم والتعبير عن جزء مما يجول في خواطرهم المنهكة من جحود النظام، خاصة في اللحظات التي يخسرون بها أولادهم وأرواحهم، إذ لم يعد لديهم ما يخسرون، فتتساوى لديهم الحياة بالموت، ويصبحون أكثر استعداداً للتضحية ورفع السقف، وهو ما تجلى في رد فعلهم على حوادث "حقل الشاعر" في حمص، وسقوط الفرقة 17 في الرقة، حيث أطلقت حملة "وينن" مطالبة بمعرفة مصير الجنود السوريين، ومجزرة أطفال عكرمة الأخيرة في حمص، حيث تظاهروا مطالبين بإقالة اللجنة الأمنية والسياسية في حمص، ورفع شعارات تكذّب الإعلام السوري الذي دافعوا عنه طويلاً بوجه المعارضين، ليكونوا أمام لحظة تلاقي مع ما بدأته الثورة السورية من حمص ذاتها، إلى درجة اعترافهم الضمني بها، فعلى أحد صفحات الموالاة نشر بوستر يقول: "المظاهرات في حمص عام 2011 تطالب بإسقاط المحافظ واللجنة الأمنية والمظاهرات في عام 2014 تطالب بإسقاط المحافظ واللجنة الأمنية"، مرفقاً بعبارات من نوع "سيادة الرّئيس لو كان أحد الأطفال الملائكة الشهداء في عكرمة/ حمص بالأمس هو أحد أطفالك أولادك كيف ستكون ردّة فعلك ؟ أتمنى أن يصلك سؤالي مع أني أعلم جيداً أنه لا حياة ولا ضمير فلمن أنادي ؟" رغم أن الصفحة تقدّم نفسها تحت سقف "القيادة الحكيمة"، وهو ما يذكر مرة أخرى بشعارات المتظاهرين الأوائل الذين كانوا يطرحون الإصلاح في ظل قيادة "الدكتور بشار" ليكتشفوا عبر مسار الانتفاضة أن التعويل عليه غير مجدي، خاصة أننا أمام بيئات اجتماعية تربّت على قيم النظام البعثية المطلقة بأنّ المعارضة "خيانة" و"القائد مقدس" و "الأبد"، مما يطرح سؤالا: هل وصل الموالون( وإن متأخرين) إلى اللحظة التي اكتشفوا بها أنهم مجرد وقود؟
رد فعل السلطة على احتجاجات الموالين البسيطة لم يختلف عن رد فعلها في العمق على احتجاجات المعارضة مع اختلاف درجة القمع ونوعيته، ليس لرأفة النظام بهم طائفياً أو سياسياً كما يتوهم البعض، بل لعجزه فعلياً عن ذلك، لأن اعتقال متظاهرين يشكلون البيئة الحاضنة الوحيدة لما تبقى من "جيشه"، في لحظة احتقان كتلك سيعمّق مأزقه وقد يدفع كرة الثلج للتدحرج، الأمر الذي دفعه لاتخاذ تدابير انتقائية تؤكد على جوهره الأمني الغير قابل للإصلاح والاعتراف بأيّة مطالب أو آلام غير كرسيه، إذ أقدم على اعتقال منظم حملة "وينن" وكذلك اعتقال عدد من منظمي الاعتصام في حمص، إذ نقلت إحدى الصفحات المؤيدة الخبر التالي: " تم اعتقال السيد وحيد يزبك إلى أحد الأفرع. الحرية للسيد وحيد يزبك والموت للخونة"، بالإضافة إلى معلومات عن اعتقال مؤسس "صفحة لا مدارس حتى إسقاط المحافظ"، لنكون أمام بيئات حاضنة للنظام، باتت تطالب بالحرية لمعتقليها من سجونه، وتنظّم حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعني أن تلك الفئات بدأت تقارب الإدراك بأن النظام غير قابل للإصلاح، وأنه سيعتقل كل من لم يندرج في إطار رؤيته موالياً أم معارضاً. وهو تطوّر لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار لمن يعرف التكوين الفكري الاجتماعي لهذه الفئات، وهو ما لم تدركه المعارضة يوماً، فسارت في الطرق المعاكسة لما يثوّر تلك الفئات أو يحيّدها على الأقل، خاصة أن النظام عرف كيف يستثمر هذا الأمر جيداً، حين دفع الجميع نحو الخنادق التي يريدها: العسكرة، وإطلاق يد الإرهاب، والتخويف من الآخر الذي يحاكي ميراثاً ثقيلاً لدى الأقليات..
بالمعنى العلمي لا يوجد كتلة اجتماعية ذات بنية مغلقة غير قابلة للتغيّر، إذ يقول المنطق العلمي أنّ كل فئة أو طبقة اجتماعية تؤثر وتتأثر بمحيطها، وبالتالي قابلة للتحوّل والتغيّر، وهي تكون قادرة على الفعل استناداً لمحصلات القوى الممكنة في اللحظة تلك. وهنا عمل النظام تاريخياً وعبر عقود على انتزاع قوة هذه التكوينات الاجتماعية و الطبقية، ليتركها ملحقة به. وحين نقول هنا الطبقي والاجتماعي لا نعني الطائفة أو المجتمع الساحلي فحسب بل يضاف لها طبقة الرأسمالية السورية بتحوّلاتها كافة ( بدءا من الرأسمالية التقليدية وصولا إلى المئة الكبار ومرورا برأسمالية الدولة و..)، وأبناء المدن الكبرى ( المجتمع المديني: حلب ودمشق) وأرياف دير الزور وتدمر ( البدو وغيرهم) والأقليات الدينية الأخرى، وهي كلها قوى وقفت وتقف إلى جانب النظام، وما كان ليصمد دونها، بحيث باتت تلك القوى مفرغة من أيّة قوة فعلية قادرة على التأثير والخروج عن سلطة النظام الذي عمل مع بداية الثورة على ترسيخ تبعيتها له اقتصادياً ( زيادات الرواتب الإكثار من التوظيف..) وأمنيا ( آمان ومنح امتيازات) تبعاً لظروف كل منطقة منها، مع سعي واضح لعزلها عن سياق التأثر بمناخ الثورة عبر استراتيجية فعلية نجحت ولا تزال، في الوقت الذي تعاملت فيه المعارضة ومن خلفها برد الفعل واللين تارةً والتهديد تارةً أخرى والدعوات الفارغة بعيداً عن أيّة استراتيجية فعلية تعاكس استراتيجية النظام.
التحوّلات المرصودة فوق، تثبت أن لا كتلة اجتماعية عصيّة على التغيير، شرط أن تعرف آليات الفعل الناجحة وممكناتها في لحظة تاريخية معينة، وقراءة التحولات في كل لحظة، متذكرين أنّ أغلب الفئات الثائرة اليوم كانت تعتبر يوماً جزءاً لا يتجزأ من مطبخ النظام، وعلى رأسها درعا التي باتت اليوم مهد الثورة وأمها، وما تحوّلاتها عبر مسار طويل، بدءاً من مطالب إقالة مسؤول الأمن السياسي والمحافظ إلى المراهنة على الإصلاح في ظل قيادة الأسد إلى إسقاط النظام سليما فعسكريا.. إلا دليل على ذلك، فهل تقرأ المعارضة اللوحة جيدا هذه المرة أم "فالج لا تعالج"؟
------------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة