بعض البلاغة قاتلة

بعض البلاغة قاتلة
القصص | 31 أكتوبر 2014

لا.. لا.. "اللي ياخذ أمي" ابداً مو عمي. كما أن "اليد اللي ما بقدر عليها ما راح بوسها".. وسأدعو لها بالكسر على أقل احتمال. قائمة لا تنتهي من الأمثال المشابهة توجه أفعالنا نحو سلوكيات جاهزة، وغالباً ما نتركها تعبر دون تمحيص بأبعاد مدلولاتها أو أحكامها القاسية، حتى أن بعضها يحط من كرامة الإنسان الحر، ومنها ما يبعث على الإحباط والاستسلام.

معظم الأمثال تشير إلى رشاقة كامنة تكتنزها، مثل تلك العبارات المسجّعة (السجع)، مما يتيح لها التحرك في مجال زمني مفتوح يكسبها من القوة ما يجعلها قادرة على توجيه سلوكنا بلا محاكمة ذهنية متأنية أحياناً. ليس لدي شك بأن المجتمعات البشرية كلها حين تبتكر ثقافاتها فهي تصيغ جزءًا منها على شكل حوادث وحكايات وأمثال وحكم لكنها في الوقت نفسه تحرص دائماً على تطويرها، وما تبدّل الأمثال مع مرور الأيام إلّا انعكاس لتفكير جديد ورؤية مغايرة.

لا يمكن لأحد أن ينكر بأن الأقوال المأثورة وقصص الحوادث المتوارثة عبر الأجيال هي خلاصة تجارب الأمة، وخزّان حكمتها، وهي أحد المكونات الثقافية ولها القدرة على الحضور الزماني، ولكن  كلّ هذا لا يتيح لها أن تصبح قانوناً ثابتاً ومنهجاً يمكنه أن يكون صحيحاً للظروف المختلفة كلّها.

تفيض صفحات "الفيس بوك" بمثل تلك المواعظ والأمثال البليغة، حتى أن البعض ارتأى أن تقوم بعض المواقع بالنشر نيابة عنه، فالنصح طوال الليل والنهار أمر مجهد حقاً!  فلماذا لا يستعين هؤلاء بمثل تلك المواقع؟ يزداد حقدي على "الفيس بوك" أحياناً كثيرة، وأشعر أنه استنفذ المزيد من طاقتنا وصار أكثر نضالنا على ساحته وصار أكثرنا شعراء وناصحين وحكماء ومحللين سياسيين..الخ. بغض النظر عن قيمة المادة وأسلوبها أو حتى الأخطاء الإملائية القاتلة التي تعجّ بها.

تحفظت ذات مرة على مضمون رسالة بليغة في مواعظها وصلتني مثلما وصلت لغيري على "الواتس آب" من أحد زملاء "الفيس بوك". الرسالة، غاية في الروعة من حيث جزالة عباراتها وموسيقى كلماتها، كما أنها غاية في القيم التي تحلّى بها أبطالها من شهامة وشجاعة وكرم، وكان تحفّظي  ليس من باب الغيرة (كما يقولون) باعتبار أنه لا يمكنني أن أتحلّى بهذه الصفات الكاملة مهما اجتهدت، لكنني ما زلت أجادل أن فيها من المخاتلة ما يكفي فالبلاغة اللغوية التي تضمنتها الرسالة لا تكفي أن تكون برهاناً على مصداقيتها. وفي نهاية الأمر بلاغة النصوص لا تبرر المبالغة في أحداثها.

لا اقصد الحطّ من مآثر تاريخنا وحوادثه، وليس عندي رغبة أكيدة في النيل من عظمة أجدادنا أو من فروسيتهم، لكن يعزّ عليّ كثيراً أننا لم نعد نشبههم حين لا نورد إلّا محاسنهم، ذلك إحدى حالتين: إمّا أننا لسنا من نسلهم! لأننا لم نعد نشبههم، أو أنهم هم ليسوا  كما توردهم الحوادث والأمثال حقاً! ولعل الثانية هي الأقرب، باعتبار أن الثقافة وما يتفرع عنها من القيم والعادات وصولاً إلى الحكمة والأمثال، أقلّ عرضة للتغير خلال عمر التاريخ.

نجنح نحن بني البشر في كثير من الأحيان إلى تقمّص عالم رمزي ننحته كما يحلو لنا ثم نحبس أنفسنا ضمن جدرانه، وفي الوقت الذي تثبت فيه الحوادث أن رحلات البحث عن الكمال قد انتهت إلى فشل ذريع ولم يبق إلا البحث عن الممكن هو أقصر الطرق إلى النتيجة الأفضل، وقد وصلت مجتمعات عديدة إلى الاستقرار النسبي والازدهار المعيشي دون أن تضطر لتقديس تراثها بل أخضعته لمتطلبات الحاضر باعتباره وحدة القياس المطلوبة.

ليست هذه دعوة للقطيعة مع التراث ونتاجه، وهذا سؤال كبير تصدّى له كثير من الفلاسفة والباحثين وخلص أحد البارزين منهم (محمد عابد الجابري) إلى القول: "أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر". يخطر في بالي أن الأحاديث البليغة والأمثال التي نحشو بها خطاباتنا وكتاباتنا هي أقرب في الشبه إلى الوجبات الجاهزة لذيذة الطعم وحلوة الشكل، لكنها ليست بالضرورة ذات فائدة دائمة، فلا أهمية لفكرة أو سلعة لا نحتاج استخدامها في خدمة الواقع.

 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق