ممانعة النظام من فم مؤيديه

ممانعة النظام من فم مؤيديه
القصص | 14 أكتوبر 2014

في معرض احتجاج أحد الصفحات المؤيدة للنظام السوري على تجاهل الإعلام الرسمي لمجزرة عكرمة في مدينة حمص كتب الآدمن: "يرحم أبوكم قولو للتلفزيون السورية يحط شي غير العتابات والزجل. يحط شي حداد شي هادئ شوي. لك يوم غزّة اللي صرعو راسنا فيها كان في حداد. شو ولادن احسن من ولاد عكرمة؟".

العبارة التي كتبناها كما نشرت، تشي بأبعد من احتقان الحاضنة الشعبية ضد النظام رغم أنها لا تزال تبرر نقدها وغضبها ( خوفاً أو حقيقية لا ندري) بأنه يبقى في ظل "سيادة الدكتور بشار"، مختزلة بذلك علاقة النظام المركبة مع شعبه ومع القضية الفلسطينية التي لم تكن إلا سلعة، طالما رفعها النظام لتبرير سياسته القمعية داخلياً، باعتبار أن الأولوية دائما هي لمحاربة العدو الخارجي.

ينتمي النظام السوري إلى نوع من أنظمة الفاشستية الشعبية التي برزت في ظل مرحلة التحرر العربي في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، إذ حملت في جيناتها عنصرين غير قابلين للتعايش، إلا أحدهما على حساب الآخر: التحرر من الاستعمار ومحاربة الإمبريالية والرجعية والبنية التوتاليتارية العميقة التي تحكم آلياتها وبناها الداخلية. ولما كانت محاربة الاستعمار لا تتم إلا من قبل "شعب حر" أدت التجربة التاريخية التي مرّت بها تلك الأنظمة لأن يتحوّل العنصر الأول إلى مجرد إيديولوجية تغطي على العنصر الثاني الذي تمأسس وتعمّق وتجادل مع بنية الدولة، لنكون أمام مركّب عجيب: بنية قمعية مستبدة موجهة للشعب وقضايا وإيدولوجيات خارجية ( فلسطين، قومية، ممانعة، جبهة صمود..) تخدّر هذا الشعب، متبوعا بسياسة لفظية عنجهية تجاه الخارج (وزراء الخارجية السوريين مثالاً) مقرونة بانبطاح عجيب ساعة الجد (تسليم أوجلان، الخروج من لبنان، تسليم الكيماوي)، وهذه الازدواجية في السياسة ناتجة حقيقة عن كون "نظام الحكم يميل إلى أن يكون بورجوازياً"، وعليه فإن "البورجوازية الحاكمة تتخذ مواقف وطنية في مواجهة الطرف الإمبريالي السائد عالمياً. أما إذا أصبحت هذه الظروف غير ملائمة، فإن البورجوازية نفسها تقبل التكيف والخضوع، فتصير "كومبرادورية" كما يقول المفكر سمير أمين.

وعليه فإن النظام السوري لم يترك أيّة قضية يمكن الاستثمار فيها خارجياً، إلا وركبها، بغية خنق الداخل وإسكاته عبر إقناعه بأنّه مستهدف من العدو الذي لا ينتهي حتى يعاد خلقه من جديد، إذ بمجرد ما أصبحت إسرائيل غير مفيدة لإقناع السوريين بالصمت على المستبد حتى أصبح "الإرهاب" هو العدو اليوم، الأمر الذي يعكس العدد المكثّف للقضايا/ السلع التي يتاجر بها النظام السوري ليقايض بها حين تحين ساعة المقايضة، إذ لم تكن فلسطين إلا أكبر هذه القضايا التي تاجر بها، حتى على حساب قضيته الوطنية (الجولان)، إلى درجة أن تحرير فلسطين كان عنوان كل السوريين وسط تجاهل تام لصمت جبهة الجولان التي لم تكن تتقدّم إلا حين يريد النظام، وبأوقات محددّة ومدروسة كما نرى اليوم، إذ ليس المهم التحرير بقدر ما هو استخدامه آداة يوّجه من خلالها رسائل للداخل والخارج. ولعل استثمار النظام لما حدث في غزة إعلامياً في ظل الثورة السورية مع إرسال رسائل لإسرائيل والغرب عبر جبهة الجولان على الأرض مع تغييبها عن الإعلام المحلي يفضح طبيعة وعقم وتناقض هذه السياسة التي عبّر عنها لسان حال المواطن المؤيد، دون أن يدرك أنه يضع يده على وحدة من أهم البنى الحاكمة للنظام السوري.

إن حضور "غزة" في كلمات الرجل تشي بمدى نجاح النظام في تخدير شعبه الذي بات يطالب بأن يعامله النظام كما يعامل أهل غزة، ولو على المستوى الإعلامي فحسب! إذ يهدف الإكثار من حضور غزة وغيرها من قضايا إعلامياً إلى إيهام الشعب بأن تلك القضايا هي قضاياه الأساسية إلى أن تأتي صفعة كمجزرة عكرمة وتدفعه نحو إطلاق الأسئلة التي ستفتح بوابة التغيير مهما طال الزمن.

النظام الذي لا ينتبه لصراخ مؤيديه، يطالبهم بمزيد من الصمت ويعاملهم باحتقار لا مثيل له، الأمر الذي يدفعهم إلى المطالبة بأن لا يبتذل دماءهم وأرواحهم إلى هذه الدرجة. فليعاملهم بمنطق السلع الأخرى على الأقل! إنه منطق السادة والعبيد لا غير، إذ يطالب العبد بتحسين شروط عيشه وتقليل كمية احتقاره لا غير، ليكتشف بعدها أن هذه الأنظمة غير قابلة للإصلاح والتغيّر، وهو ما سيفتح بوابة التغيير مهما طال الزمن.

ولأنّ كل السلع/ القضايا الأخرى تهدف أولا وأخيراً، إلى إسكات الشعب وحرفه عن قضاياه الأساسية في الحرية والكرامة، فإن النظام يبدو عاجزاً عن منح حتى هذا الحق لمؤيديه، لأن فتح الباب يعني الإخلال بأحد البنى الحاكمة لنظامه، بما يعني فتح الباب أمام توّسع هذا الصوت، وهو ما ليس بوارد السماح به إطلاقا، إذ لا حل ّ أمامه إلا الإكثار من قضايا "محاربة الإرهاب" و"غزة" و "فلسطين" و "المقاومة" مرفقة بسلطة القمع التي بدأت تطالهم بنحو مباشر، ليبقوا خائفين ومشدودين له، باذلين دماؤهم في سبيله تحت "سقف الوطن" المظلّل بجزمة الدكتاتور.

 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق