عندما انتفض الشعب السوري في وجه نظام الاستبداد، كاسراً قيوده، مطالباً بحقوقه المسلوبة في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بدأ الحراك ذات مضمون عصري حضاري يقوم في جوهره على مبادئ حقوق الإنسان. واجه النظام المطالب المشروعة، بالعنف، لأنها تهدد أركان نظامه واستمراره في الحكم. وأعلن الحرب التي امتدت أكثر من ثلاث سنوات، ولم تنتهي، كان من أبرز نتائجها: بروز ونفوذ متزايد للقوى المتشددة والقوى التكفيرية على خلاف ما كان يتردد على أسمعانا من قبل معارضين على أن سوريا بلد التعايش بين مختلف مكوناته الاثنية والدينية عبر آلاف السنين، سوريا بمنأى عن التطرف والتشدد، لا حاضنة شعبية للتكفيريين، والنظام بدوره كان يتهم كل من يحمل السلاح ضده على أنه تكفيري.
وعملت آلته الإعلامية على بث الرعب من الإرهاب القادم و حشد وتجنيد الإتباع ضده. والسؤال هل كان النظام بعيد النظر إلى هذا الحد أم أنه كان يعلم أن خطته للقضاء على معارضيه سوف تقوي القوى التكفيرية والمتشددة؟ وتعطيه شرعية العنف الذي بدأه؟
النظام السوري الذي حرم المعارضة المنظمة من الوجود خلال عقود وغيَبها في السجون، حيث أن السلطة الاستبدادية لكي تضمن الاستمرار في الحكم فإنها تشن حرب أهلية كامنة بل صريحة بواسطة أجهزة العنف المختلفة التي تمارس التخويف والرقابة والردع سلطة لا قانونية اتجاه أغلبية المواطنين، استطاعت تهميش الشعب ومنع تشكيل أحزاب سياسية معارضة، نتيجة ذلك بدأ الحراك الشعبي بلا رأس بلا أحزاب ولم يعطيه النظام فرصة التشكيل والتنظيم، حيث تم اعتقال عشرات الآلاف من الناشطين السلميين ودفع ألافاً آخرين إلى الهرب خارج البلاد، ما أدى إلى تفريغ الحراك من رموزه، وترك الساحة للقوى المتشددة، بعد أن تدخلت وسائل العنف بطرق جديدة أكثر وحشية وكانت تتعاظم كلما تعاظم الحراك، حتى أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء.
حيث إن القتل العشوائي ينمي الأحقاد وروح الثأر وإلغاء الآخر، فتجد مكانها بين صفوف القوى التكفيرية، التي تبرر أي سلوك مهما كان شنيعاً رداً على سلوك النظام.
كما أن العنف الشامل و سياسة تدمير المساكن والممتلكات والتهجير القسري يحرم الحراك من الحاضنة الشعبية، ويقوض عملية بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تقوم بالرقابة والضغط والدعم، وتحافظ على مكتسباتها في الحرية اللازمة لوجودها، وبسبب انتشار البطالة، اجبر الشعب على حمل السلاح والقوى النافذة هي من يستطيع التعبئة والتجنيد، لذلك استفاد النظام من تهجير السكان و تشريدهم حيث أن الموالين منهم تجندوا في صفوف المليشيات التي صنعها النظام، كما استفادت المعارضة المتشددة من التعبئة في صفوفها، لأنها تملك السلاح والمال، نجد أن مصادر الدعم المشروط ساهمت في تقوية أطراف وأضعفت أخرى، حيث تم انتقال المقاتلين من موقع لآخر. إذن فالدول والجماعات ساهمت في تقوية القوى المتشددة نتيجة الدعم.
أما عن المقاتلين الأجانب الذين قدموا إلى سوريا مستفيدين من حاجة المعارضة المسلحة لرجال مدربين لم يكونوا بحاجة لدعوة فهم يعرفون وجهتهم إلى كل الحلقات الضعيفة التي تمزقها الحروب، فكيف في حرب أخذت تغذيها العداوات التاريخية مابين المسلحين القادمين من الشيشان وبين روسيا التي تدعم النظام . ومابين القاعدة وبين إيران واستطالاتها العسكرية والسياسية من القوى الطائفية الشيعية التي تقاتل إلى جانب النظام. كما أن أمريكا استفادت من انتقال أعداداً كبيرة من القاعدة من أفعانستان إلى سوريا لغاية استقرار الأوضاع في أفغانستان قبل الانسحاب الأمريكي، توطنت القاعدة في سوريا عبر النصرة والأصح أن جموع القاعدة التي قاتلت في صفوف النصرة جذبت النصرة بهذا الاتجاه، كما استطاعت الدولة الإسلامية أن تستقطب عناصر كثيرة إلى صفوفها خلال صراعها مع القاعدة التقليدية ونتيجة انتصاراتها على الأرض.
لعب النظام السوري دوراً فاضحاً في قوة داعش ونفوذها، حتى ظن الكثير أنها صنيعة النظام بعد أن وجهت حرابها إلى قوى الجيش الحر بداعي رفضها الشراكة فإما الولاء وإما الحرب، في الوقت الذي لم تصطدم مع النظام، كما أن النظام لم يوجه ضرباته إلى داعش داعماً دورها، ولا عجب في ذلك لأن التأمر والفتنة ودفع القوى المعادية للانقسام والاقتتال هي من الوسائل الهامة في الحرب لإضعاف العدو. كما يؤكد أن الجيش الحر هو العدو الاستراتيجي للنظام لأن مشروعه يقوم على تقويض سلطة النظام على مساحة الوطن السوري. أما داعش فمشروعها فئوي تقسيمي تكفيري، هذا المشروع من جهة يعزز الدور الإيراني وحلفاءه في الاستقطاب على أسس طائفية ومذهبية، كما يترك المجال للنظام لتعزيز سلطته في مناطق سيطرته ونفوذه على أساس تقسيم سوريا، إضافة إلى أن مشروع داعش السياسي التكفيري يخدم النظام في الحشد والتعبئة وإرباك المعارضة خوفاً من الأسوأ. ويمنح النظام شرعية على الصعيد الخارجي بمحاربة الإرهاب.
ساهم النظام العراقي بالتنسيق مع النظام السوري وإيران بدعم القوى التكفيرية عندما أفرج عن آلاف التكفيريين وسهل لهم الانتقال إلى سوريا من أجل تعزيز وضع النظام على أنه يحارب الإرهاب، والتخلص منهم عبر إرسالهم للموت في سوريا، لكن السحر ارتد على الساحر عندما قويت داعش و سيطرت على مناطق واسعة من العراق وسوريا وأعلنت دولتها. في الخلاصة إن عنف النظام والسياسات التي تقوم خدمة للمصالح الخاصة الفئوية وغياب دور المؤسسات الشعبية والسياسية، تأتي في مقدمة أسباب توليد وتعزيز القوى المتشددة والتكفيرية.