شكل النظام وعي السوريين كوعي ديني، فقد دعم المؤسسات الدينية، وأنهى كافة أشكال الحريات وأشكال التعبير النقدي؛ فتمايزت كل طائفة بوعي خاص بها، تستقيه من دينها أو مذهبها. في ظل هذا الشكل المسيطر من الوعي انطلقت الثورة.
ولكن سريعاً ما حددت موقفها السياسي، من السلطة بأنها سلطة ديكتاتورية بالتحديد، وأن هدفها حيازة الحريات والحقوق العامة ولا بد من الانتقال الديمقراطي ومحاسبة المسؤولين الأمنيين ولا سيما عاطف نجيب ومحافظ حمص، وهكذا. هذا ما قالته التنسيقيات الأولى. ولكن السوريين كانوا يعرفون أن السلطة بإمكانها أن تلعب بورقة الطائفية مجدداً، فهي أًصلا لم تنهِ ملف الثمانينات، وأبقته حاضراً بأذهان الشعب، حيث عدم الثقة بين الطوائف والتكاذب في العلاقات، وتجنب المكاشفة عن الفساد والنهب أو الاستبداد، فصمت الوعي عن ذلك، ولا سيما أن حرب الثمانينات انتهت بمأساة، حيث قتل ألوف السوريين، وكانت الحرب أقرب للطائفية، فالإخوان أرادوا بناء دولة إسلامية وقالوا ذلك، والنظام رد بتشكيل قوى عسكرية مخصصة لتلك الحرب وكانت طائفية.
النظام اعتقل ألاف اليساريين وكانوا من كافة الطوائف، وكانت أعداد كبيرة منهم تعود أصولهم الدينية لأسر علوية. هذه الحرب لم ينسها السوريون أبداً وتحديداً الطائفتين السنية والعلوية.
رفع السوريون شعارات وطنية، أشهرها على الإطلاق "الشعب السوري واحد واحد واحد" هذا ما رفضه النظام فوراً، ومقابل ذلك رفضه الإخوان كذلك. وبدأت المعارضة تسوّق الإخوان، وأُشركوا في كافة التشكيلات السياسية الممثلة للثورة وكانوا في قيادتها؛ ودخلت قناة الجزيرة بشراكة مع الإخوان لتسويقهم فقط، ودعمت ذلك قطر وتركيا.
النظام الذي يعي خطر الثورة الشعبية، وإسقاطها لأنظمة تونس ومصر، لم يكن بمقدوره مواجهة الشعب إلا بالخيار الأمني والعسكري. وعبر الوعي الطائفي. أي استخدم الطائفية كأداة سياسية مباشرة ضد الثورة ولتحييد قطاعات مجتمعية واسعة، وتصوير الثورة كحركة مجموعات إرهابية خلفها الأخوان والقاعدة والسلفية، وهي مؤامرة سعودية وأمريكية وسوى ذلك، وقصة بندر أشهر من التحدث عنها.
إذن، أخطر أداة لمحاربة الثورة كانت الطائفية، فبدأ يتكرس الوعي الطائفي، فالسنة قادمون للفتك بالعلويين. وهم سيهددون كل مظاهر المدنية والعلمانية. ولا خيار للعلويين إلا دعم النظام ومن يخرج عن ذلك يذل ويهجر ويعتقل ويقتل، وهذا مورس بشكل ممنهج في كافة المناطق والمدن التي بها العلويون أكثرية. وشكل النظام اللجان الشعبية ولاحقاً الجيش الوطني، أي الشبيحة لمواجهة الثورة. ساعد النظام بذلك تحديداً المجلس الوطني ولاحقاً الائتلاف الوطني، حينما أشركوا الإخوان فيها، ولاحقاً حينما قالوا إن جبهة النصرة من قوى الثورة، وصمتوا لبعض الوقت عن داعش، وباستثناء رفض داعش لاحقاً، ظل الموقف من كافة الجهاديات أنها جزء من الثورة.
النظام لعب على الوعي العام، والذي هو وعي ديني، وأقام فاصلاً حاداً بين الثورة وبين كثير من الفئات، منها العلوية والأكراد وبقية الأقليات وأهل المدن الرئيسية، لا سيما حلب ودمشق. سياسة المعارضة ساعدته في هذا الموضوع بالتحديد.
النظام تابع الاعتماد على الطائفية كمنقذ له من السقوط؛ فارتكب المجازر المتتالية، والتي كان لها طبيعة طائفية؛ أي أن القتلة علويون والمقتولين سنة؛ دعمته إيران في كل سياساته، بل هي وحزب الله شركاؤه ضد الشعب، ولاحقاً استعان بمليشيات شيعية عراقية وغيرها.
القوى المدافعة عن الثورة، نشرت طائفيتها فظهر لنا العرعور وقناة الصفا، إضافة لدور الأخوان كدور مركزي. في ظل هذه الطائفية تطورت الثورة نحو العسكرة الكاملة، ونحو الدعم للجهاديات بصفة خاصة، وسُحب الدعم عن كل ما هو وطني، وهنا ترسخ الوعي الديني مجدداً، ولكن الطائفية كوعي سياسي، وكشكل للسلطة القادمة وكممارسة كاملة بقيت مرفوضة من أهل الثورة، وحتى عند الأقليات (الموالية) بما فيها العلويين. الذي ساد حساسية دينية عالية، وهي تتصاعد مع تكرار المجازر.
العلويون تململوا مرة وثانية وثالثة، واعترضوا على النظام، لأسباب خاصة، أي بسبب موت أولادهم، ولكن من يعترض إلا لأسباب تخصه مثلاً؟
هذا لم يُقرأ لدى المعارضة أبداً، ولا زالت تعمّم تحليلات رديئة، كالقول إن على الطائفة العلوية الانفكاك عن النظام، ولو انفكت لسقط النظام، وأن عدم سقوط بسبب ذلك الالتفاف. المعارضة هنا تبتعد عن أن تتحمل مسؤوليتها عن المشكلات المتصاعدة أمام الثورة، وبغض النظر عن موضوع الموالين، ولأنها فاشلة في تبنى خطاب للثورة ونقد مشكلات الثورة، والتصدي لها، ومنها ما يخص مشكلات العمل العسكري مثلاً ومنها تأييد الجهادية، ومنها الصمت عن التحكم الخارجي بتنظيمات الثورة العسكرية بالتحديد.
معارضة لديها كل هذا الفشل، لا يمكنها التمييز بين الحساسية الدينية وبين الطائفية السياسية، إنها تهرب من التصدي للمشكلات فقط.
الوعي العام ليس وعياً طائفياً، هو وعي ديني لديه تشدّد ديني في فترات المجازر بصفة خاصة. والطائفية هي سياسات الإخوان والجهاديين، وهي أداة النظام في تطييف كل الوعي السوري، ولكنها أداة سياسية للنظام، للإجهاز على الثورة فقط، فهو لم يجهز على الثورة فقط بل وأجهز على ألوف من الطائفة العلوية ومن غيرها، والجيش والأمن ليس علوياً فقط؛ وبسبب ذلك الإجهاز، فإن هذه الطائفة ما تنفك تتململ بشكل مستمر، ولكنها وبوجود هكذا معارضة، وهكذا جهاديات، وهكذا نظام يقمع كل صوت من العلويين حالما يبدي رفضاً له، فإنها ستصمت وتصمت، وقسم منها سيستمر في موالاته، وقسم سيهرب منها كليةً، ويمكن قراءة أعداد الذين يرفضون الخدمة ومن يسجنون أو يقتلون لأنهم لا ينفذون الأوامر.
ليس كل العلويين شبيحة ولا قتلة. وحينما تفكر المعارضة بهذا النحو، فهي مصابة بالضحالة الفكرية والسياسية معاً، وتتهرب من مسؤوليتها عن المشكلات التي سببتها هي بالتحديد للثورة، وساهمت مع النظام في أن تصبح سوريا دولة فاشلة بكل معنى الكلمة.
----------------------------
مقالات الكتاب لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة