حصار المدن.. الأخلاق أولاً

حصار المدن.. الأخلاق أولاً
القصص | 11 أكتوبر 2014

لا يجد الأمريكيون حرجاً في القول إن إنقاذ كوباني ليس أولوية أمريكية، وهي على شفا كارثة إنسانية وإنقاذها في متناول اليد الأمريكية. ولا يجد الأتراك حرجاً في إرسال دباباتهم لكي تقف على أطلال المدينة المحاصرة كي تشهد على سقوطها دون أن تحرك ساكناً، إن لم تكن لتساعد في هذا السقوط، ومن الطبيعي أن يرابض الأكراد الأتراك المتعاطفون مع كوباني على الحدود، بعد منعهم من العبور لمساعدة المدينة المحاصرة، مخافة أن يشارك الجيش التركي إلى جانب داعش ضد كوباني المحاصرة، كما يقولون. ولا يجد النظام السوري ما يستدعي العمل على إنقاذ "رعاياه" في كوباني ضد "داعش" التي يتاجر بمحاربتها في سوق السياسة العالمي ويريد أن يدخل من هذه النافذة لاستعادة مقبولية عالمية. 

تضع حصارات واقتحامات المدن التي تتوالى بطريقة درامية في زمننا (وكوباني اليوم هي النموذج الساخن) الناس جميعاً في امتحان. يتصرف الناس "الخارجيين" إزاء هذه المحنة بطرق مختلفة على خلاف "الداخليين". يكون للخارجيين ترف الكلام الحر الذي لا يستتبع عواقب لأنه مجرد كلام. يمكن للخارجيين أن يرضوا أنفسهم بشتى ضروب التعاطف اللفظي، ويمكنهم أن يتخذوا مثلاً موقفاً عدائياً من الجهة العسكرية التي تتولى الدفاع عن المدينة المحاصرة لأن هذه الجهة لا تروق لهم سياسياً مثلاً، ويمكنهم أن يستخفوا في تعاطف هذا الطرف أو ذاك، هذا الشخص أو ذاك ..الخ. غير أن الحصار ووحدة  المصير لا تترك أمام الناس "الداخليين" خيارات كثيرة، المقاومة أو الفرار، وحين تغلق سبل الفرار، فإن المواجهة تصبح الخيار الوحيد بصرف النظر عن أي تباين في القدرات العسكرية أو البشرية. في حالات كثيرة، كالحالات التي نشهدها في زمننا هذا، يخرج الاستستلام من قائمة الخيارات لأنه يعني الموت أو ما هو أشد ألماً. الحصار يفصل الداخل المحصور عن المحيط، فيصنع بهذا مبدأً طارئاً للفصل بين الناس، بين من هم في الداخل ومن هم في الخارج. وهذا الفصل يتجاوز الفصل المكاني، إنه يرسم معطيات سياسية مختلفة أيضاً. يخلق بيئة سياسية داخلية مختلفة بالكلية عن البيئة الخارجية.

حصار المدن على يد جماعات عنفية مفرغة من أي مضمون وطني أو ديني، جماعات عنفية تشكل التجسيد المادي العنيف لفراغ المعنى وانحطاط السياسة، يجعل من لحظة الحصار معطى سياسي ثابت مقطوع عن تاريخه، يجعل من لحظة  الحصار مرجعية سياسية وعسكرية وقيمية لا معنى أو لا جدوى من إنكارها أو ردها إلى مرجعيات أخرى. هذا إذا حاولنا أن نرى الأمر بعيون الداخليين. غير أن للخارجيين في زمن الحصار ترف اختيار النقاط المرجعية التي تروق لهم، ربما لاعتبارات حزبية أو مناطقية أو طائفية أو حتى شخصية. تزداد مرجعية لحظة الحصار ثباتاً ومشروعية حين يقف العالم متفرجاً على كارثة تحدث على مدى أسابيع أو اشهر، وهو يمتلك كل وسائل وقفها. للمدينة المحاصرة وأهلها وقواها الحق في أن تكون مرجعية ذاتها على كل المستويات، يتعزز هذا أمام طبيعة الجماعات التي تقوم بالحصار وأمام التواطؤ المحلي والاقليمي والعالمي. وليس للخارجيين إزاء أهل الداخل المحاصر إلا العمل (وليس فقط الكلام) لرفع الحصار أو تعزيز الدفاعات. ليس للخارجيين بالتحديد أن يسبغوا مشروعيات سياسية على هذا الطرف أو ذاك. الهم الأول والمحدد هو حماية المدينة وأهلها، ومن هذا الهم وحده تستمد المشروعيات. 

حين يطالعنا رموز دينية سياسية لها تأثيرها، مثل الشيخ يوسف القرضاوي، أو المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي، بالقول إنهم ضد الحرب الأمريكية على داعش التي تتهاوى المدن أمامها ويتشرد الناس ويذبحون ويسبون على يد عناصرها، لنا أن نقول: إذا كنتم لا تحاربون داعش ولا تريدون لأمريكا أن تحاربها، هذا يعني أنكم تريدون أن تمضي داعش في "فتوحاتها". وكذلك حين لا يستطيع الخارجيون مثلاً أن يمدوا يد العون إلى مدينة محاصرة، لا يحق لهم أن يسترسلوا في تحميل المسؤوليات وفي جعل نفسهم قيمين على من يدافع عن المدينة من الداخل أو من الخارج مهما كانوا يختلفون معه سياسياً. بالنسبة للداخليين الذين هم تحت النار والحصار ما يهمهم هو النجاة وما يهمهم هو من يحمل السلاح معهم وليس من يحلل ويحرم سياسياً من الخارج. في هذه اللحظات يؤجل السؤال عن سبب وصول الحال إلى ما هو عليه، يصبح السؤال كيف يمكن إنقاذ المدينة. ويصبح الأمر شديد الإلحاح حين تكون القوة التي تحاصر هي من نمط "داعش"، حيث لا حل سلمياً معها، وحيث الاستسلام يكافئ الموت. 

 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق