لعنة التوأمة

لعنة التوأمة
القصص | 12 سبتمبر 2014

حشرونا بالعشرات، لا بل كنا بضع مئات في طائرة، كان ذلك في شهر آب 1982 وكانت تلك هي المرة الأولى التي أركب فيها طائرة والأولى التي أغادر فيها أسرتي وستكثر المستجدات من الأشياء مذ ذاك التاريخ. من مئات الطلبة الذين كانوا معي في الطائرة لم أعثر على أحد من مدينتي يؤنس وحشة الغربة في أول أيامها، وما وجدت تفسيراً عن نصيب طلبة مدينتي الشحيح من هذه المئات كغيرها من المدن السورية إلا ما يفسره غالبيتنا سراً ويتحاشاه علانية.

لا يتاح للسوري ما قبل المرحلة الجامعية اكتشاف ثراء التنوع في مجتمعه إلا متأخراً، فالمعسكرات الشحيحة في مراحل ما قبل الثانوية مصطنعة ولا تفيد كثيراً في هذا المجال، وأكثر ما تركز عليه هو ترديد الشعارات وتمجيد الحزب وقائده.

 بقيت لأسابيع طويلة في الغربة اكتفي بالملاحظة لمعرفة المزيد عن عوالم بلدي عن قرب! وهناك فقط تسنّى لي اللقاء بالطلبة من العلويين والدروز والمسيحيين وبالأكراد وسواهم من السوريين وتعرفت على خصوصياتهم وطقوسهم وعاداتهم وأمثالهم... أن تستكشف جوهر بلدك في الغربة يشير إلى نقيصة في السياسة الوطنية، ولا أدري لم كان الحديث عن تلك المكوّنات في بلداننا يقترب من التحريم وإن تمّ ففي الجلسات الخاصّة همساً وعلى عجل دون ارتواء أو التأسيس لبناء قواعد معرفية يمكنها أن  تشكّل دعامة حقيقية للمناعة ضد العصبية الطائفية أو العرقية.

مازال أقرب أصدقائي الآن هم زملاء تلك الأيام، يومها كان الاتحاد السوفييتي في عزّ جبروته وعنفوانه الأيديولوجي وكان مازال واثقاً من تصدير منهجه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ومؤمناً بالحتمية التاريخية التي ستجبر الدول الرأسمالية أن تعجّل في حفر قبرها بيدها، وبدورهم (السوفييت) حشوا في رؤوسنا كذلك أن هذه الدولة العظمى ما كانت لتكون لولا المساواة والتآخي بين المكوّنات المختلفة (الروسي والأكراني والأرمني والشيشاني ..الخ ).

وقبل أن تنتهي سنوات الدراسة الجامعية بدأ النسيج السوفييتي بالتحلل والتفكك وصار الحديث علانية عن التعالي الروسي على القوميات الأخرى، يومها أيقنت أن التراصّ السابق لم يكن طواعية بل غلب عليه الطابع القسري لنظام حديدي أتقن لعبة الدعاية السياسية وعرفت أن الجورجي والطاجيكي يمقت الروسي في أحاديث الخلوة، ويتغزّل به في الجلسات العامة، لدرجة أن معظم أنخاب كؤوس الفودكا التي اجترعناها آنذاك كانت عن التآخي السوفييتي والصداقة بين الشعوب!  الدعاية السوفييتية كانت محكمة التعليب بشعارات أيديولوجية تملأ الشوارع والأبنية الحكومية وكانت محشوة في كل سطر من مناهج الدراسة،عملية غسيل الأدمغة جارية في كل شبر وسطر، وأصبحت الصيغة جاهزة للتصدير إلى الدول الأخرى التي تدور في الفلك السوفييتي ومنها سوريا التي لم تبتعد في السياسة كثيراً عن المنهج السابق.

حاول السوفييت عبر السياسة الاجتماعية كبت تمظهر التنوع العرقي والطائفي قسراً، واجتهدوا كثيراً لإثبات أن التطبّع لا بد وأن يغلب الطباع. تجربة استمرت لسبعين عاما ثم فشلت، أما ترون أن مخافة الطباع ما زالت مدهشة لنا نحن بني البشر، حين يراقص النمر فتاة جميلة! وحين لا تأكل القطة فاراً تربّى معها بفضل معلّم ماهر، قد تنجح التجربة مرة أو بعض مرات بعد جهود مضنية لكنها تبقى مهددة بالفشل في كل لحظاتها وحين يجيء يكون كارثياً في معظم الأحيان.

في العديد من المقاربات تلحظ التوأمة بين النظامين السوفييتي والسوري في العديد من الإجراءات والسياسات المجتمعية وفي التدابير الأمنية مع فارق القسوة في التطبيق وفارق الوعي والحنكة، ففي الوقت الذي انحنت فيه السلطة السوفيتية أمام حتمية التغيير ومتطلباته عام 1991، تعنتت السلطة في سوريا ولم تبد أية مرونة سياسية لتجاوز آلام عملية التغيير. وفي لقاء عابر في مكتب أحد الزملاء خلال أيار 2011 مع الملحق العسكري الروسي داخل مبنى وزارة الإعلام في المزّة تطرقنا للحديث عن الربيع العربي وعن الاحتمالات الممكنة ووجدته متشدداً إزاء حق الجماهير السورية في التغيير، وقتها كانت المظاهرات في مدن سورية مختلفة بعشرات الآلاف ترفع شعارات من نوع "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد" وسألته إن كان يلحظ إشارات التوأمة بين ما مرت بلاده به وما تعيشه سوريا اليوم؟ ولماذا قبل ساسة بلاده ملاقاة الجماهير بينما هي الآن تنكر الشيء نفسه على الشعب السوري ؟ تذرّع المسؤول العسكري للسفارة الروسية  بعبارات كثيرة ومتشابهة تصبً كلّها في خانة عمالة الحراك للغرب، أدركت حينها أن القرار الرسمي الروسي قد تم اعتماده نهائياً وعلى الطريقة السوفييتية السابقة:على الموظفين أينما كانوا أن يجدوا المبررات اللازمة لدعم الموقف المتّخذ مسبقاً.

 معظم السوريين الذين درسوا معي صاروا أصدقاء مقربين على اختلاف انتماءاتهم ولم أعد كما كنت قبل سنوات بحاجة لأبناء مدينتي الصغيرة كي أتبادل معه أحاديث طويلة. كان علينا كسوريين أن نكون أكثر جهراً واعتداداً بانتماءاتنا الطائفية والعرقية المتنوعة وأكثر نشاطاً في سبر أعماق بعضنا كي لا يتم استغلالها بسهولة لمقاصد السلطة، إذ لم تكن التعددية خلال تاريخ سورية الطويل هي المسؤولة عن إثارة أي نزاع عميق، ولكن سياسة التجهيل في اكتشاف نقاط قوة التنوع تم تحييده واستغلاله بصورة سلبية صبّت في خانة السلطة أكثر منها في خانة المجتمع.


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق