مقالات الرأي | منذ جريمة تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك في الحادي عشر من أيلول 2001 تبنت أمريكا سياسة "الحرب على الإرهاب"، وابتكر الرئيس الأمريكي جورج بوش حينها مصطلح "محور الشر" في استيراد غير حميد من اللغة الدينية إلى مضمار السياسة، هذا الاستيراد الذي يميز فعلياً الجماعات الدينية المتطرفة التي يشن بوش الحرب عليها. اعتبرت الإدارة الأمريكية حينها أن "الجماعات الإرهابية" أعلنت الحرب على أمريكا في عملية تفجير برجي التجارة العالمية، وأن أمريكا سوف تخرج للحرب على الإرهاب في كل مكان من العالم. ولما كانت كلمة "الإرهاب" لا تملك حدوداً واضحة، فقد غدت "الحرب على الإرهاب" حرباً هستيرية غائمة منفلتة من أي قانون أو ضابط ينظم كيفية وشدة وطريقة أدائها. واكتسب هذا اللاتحديد خطورة زائدة حين كان "الموجِّه" العام لسياسة دولة كبرى كأمريكا التي تحولت بفعل جرحها حينها عن الكثير من صبغتها الديموقراطية، وأقدمت على ممارسات شبيهة بممارسات ديكتاتوريات العالم الثالث، ودون أي تستر، بعد أن أقدمت على غزو بلدين تحت نفس العنوان (الحرب على الإرهاب).
اليوم، وبعد أكثر من دزينة من السنين على 11 أيلول/سبتمبر، يشهد العالم تزايداً هائلاً في الإرهاب الذي خرجت أمريكا لمحاربته. يبدو للوهلة الأولى كما لو أن "محاربة الإرهاب" غذّت الإرهاب ووفرت له الأسباب بدلاً من "تجفيف منابعه" حسب لغة أمريكية شائعة. ويبدو كما لو أن أمريكا تخسر الحرب مع الإرهاب. ولكن بالملاحظة الدقيقة يمكن أن نشهد تبدلاً جوهرياً طرأ على هذا "الإرهاب"، وهو في الواقع تبدل يناسب السياسة الأمريكية وطريقتها في ممارسة سيادتها على العالم حتى اليوم. التبدل هو أن ساحة عمل الجماعات الإرهابية ونشاطها باتت خارجية بالنسبة لأمريكا. أي بات نشاط الجماعات الإرهابية (وهي إسلامية بشكل حصري تقريباً) ينحصر في بلدان إسلامية، بعد أن تحولت استراتيجية هذه الجماعات من ضرب أمريكا والمصالح الأمريكية في العالم، وهذا يتطلب شكلاً من حرب العصابات التي تعتمد على الضرب والاختفاء، إلى السيطرة على مساحات جغرافية وإعلان إمارة أو دولة أو خلافة ..الخ وممارسة السياسة على بقعة محددة من الأرض.
هذا التحول في الإرهاب ترافق مع تحول تنظيمي تمثل في انشقاق الدولة الإسلامية في العراق والشام عن تنظيم "القاعدة" الأم قبل أن يتمدد ويعلن أخيراً "دولة الخلافة الإسلامية". مع هذا التحول يتحول الإرهاب (بقدر ما تقصد أمريكا بالإرهاب تنظيمات إسلامية جهادية متطرفة وعنفية) إلى كيان محدد بجغرافيا ومواقع ثابتة، وتعود الحرب على الإرهاب شبيهة بالحرب التقليدية التي لها جبهات عسكرية واضحة. يناسب هذا التحول إدارة أوباما التي لا شهية لها للحروب. فحين تقدم الدولة الإسلامية في العراق والشام مثلاً على تهجير وقتل وسبي مئات الألوف من الإيزيديين أو تهجير المسيحيين من الموصل أو خطف وقتل الأكراد في شمال شرق سوريا ..الخ، تجد الإدارة الأمريكية نفسها مرغمة على المواجهة أقل من أن تتعرض إحدى مدن الولايات المتحدة إلى هجوم إرهابي، أو من أن يتعرض أحد مواطنيها إلى القتل على يد الإرهابيين.
لا بأس أن تتحرك أمريكا بطائرات دون طيار لضرب قوافل الإرهابيين في العراق أو سوريا، ولا بأس أن ترسل مساعدات غذائية ترمى عبر الطائرات على جبل سنجار لإنقاذ حياة الإيزيديين المهجرين.. هذا مما يسهل على إدارة أوباما أن تقوم به وأن تتفاخر به، هذه الإدارة التي لا يجد رئيسها حرجاً من القول، بعد كل شيء، أن إدارته لا تمتلك بعد استراتيجية لمواجهة "الدولة الإسلامية". لكن أي عملية داخل أمريكا سوف تضع الرئيس وإدارته على صفيح ساخن ولن يتمكن من ممارسة "الحكمة" و"التروي" في وضع الخطط الاستراتيجية.
بين هجمات نيويورك والسيطرة على الرقة والموصل حدث تحول هام في النشاط الإرهابي. بعد أن كان الإرهاب يذهب إلى أمريكا ويحاربها على أرضها، بات مشغولاً اليوم ببناء "دولة" تستدعي أنشطتها الإرهابية أمريكا إلى الذهاب إليها وضربها. هذا التحول خفف من ضغط الإرهاب على الغرب وزاد من ضغطه على شعوب المنطقة.
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة