التعامل مع الخارج من منظور آخر

التعامل مع الخارج من منظور آخر
القصص | 01 سبتمبر 2014

 كشفت الثورة أن الاستبداد السوري تمكن طيلة عقود من أسر المعارضة والشعب في سجن إيديولوجي مغلق، بحيث باتت مقاييسه للوطنية هي المعايير المتعارف عليها، متأرجحاً بين ضفتي النظام والدولة،  للتهرب من الاحتكام لهذه المعايير التي لم يضعها ليطبقها إنما ليحكم ويستبد بها.

شكّلت العلاقة مع الخارج واحدة من هذه المعايير التي وضعها النظام، إلى حد أن تحوّلت إلى واحدة من "المحرمات" المحكومة بنص دستوري لا يتورع عن إطلاق صفة الخيانة واستسهالها، ولا يكاد يشكل شيئا أمام مجتمع يرفض أي تعامل مع الخارج حيث تغدو مفردات "خائن" و "عميل" خارجة من أحشاء مجتمع وقوى سياسية تمكن النظام من إعادة تدجينها وفق ما يريد، محتكراً لذاته أمر "التدخل الخارجي" في دول الجوار من لبنان إلى العراق إلى تركيا،  إبان دعم حزب العمال الكردستاني،  إلى فلسطين،  في الوقت الذي لا يوجد فيه أي "تدخل خارجي" من قبله في الجولان السوري! ومحرّما ذلك على معارضيه تحت حجة أن ما يحق للدولة لا يحق لغيرها، متلّونا بين مفردتي "النظام" و"الدولة" وفق ما ترتئيه لحظة مصالحه التي تصل حد الاستعانة بالخارج بشكل منحط، بحيث باتت  اليوم "الدولة السورية" ( كما يطيب للنظام القول) تطلب دعم ميليشيات وطوائف لا دول فحسب، في الوقت الذي لا يتورع رأس النظام ( حتى وهو باق بفضل دعم الميليشيات هذه) عن اتهام معارضيه بالعمالة للخارج في خطاب القسم الذي ألقاه من جحره في القصر الجمهوري!
بين النظام والدولة يتأرجح الاستبداد لتوطيد أسس أيديولوجيته هذه،  لضبط معارضيه ومجتمعه وتبرير خروجه عن نص هو واضعه، فحين يتعلق الأمر به يكون من حق الدولة ( باعتباره ممثلا لها) أن تعقد تحالفاتـ  حيث نلاحظ هنا التشديد على مفردة الدولة في البيانات والخطب والتصريحات، في حين لا يتوقف عن تقديم نفسه بوصفه "النظام" الباقي للأبد في أفعاله وسياسيته وتصرفاته وطريقة تعامله مع خصومه والثائرين عليه (الأسد أو نحرق البلد)، والذي أصبح بعد الانتخابات (الأسد أو نحرق ما تبّقى من البلد).
تحولّ التلاقي مع الخارج قبل الثورة إلى محرّم سياسي وقانوني ومجتمعي إلى درجة أنه بات "ثقافة" تنتج ذاتها بذاتها، ولا تفعل السلطة أكثر من إدارتها من خلف الكواليس، بدءاً من توجيه تهمة "التعامل مع الخارج" لمعارضيها إلى إطلاق مسميات من نوع "عملاء الخارج" و "منفذي الأجندة الخارجية والمأجورين" على لسان السياسيين السوريين ( الرئيس الأسد يكثر من هذه التعابير كثيرا) وليس انتهاءً بمجتمع معبّأ بعقلية المؤامرات الخارجية.
لا ينفصل ما سبق عن بنية النظام السوري العميقة التي تعمل على عزل مؤثرات الخارج لفرض إرادته على الداخل،  الذي يجب أن يبقى خائفاً وجاهلاً ومعزولاً عن أية ثقافة جديدة، ولائذاً في قفص الاستبداد كي لا يخرج عن النص، ليمتد الأمر حد منع الكتاب والمعلومة القادمين من الخارج، لنصل في نهاية المطاف إلى قتل السياسة عبر تجفيف أو تقنين منابع تغذيتها، تلك السياسة التي لا يراد لها أن تعود إلى المجتمع والأحزاب السياسية التي يراد لها أن تبقى أحزاباً بالاسم،  تجمّل الاستبداد وتروّج مقولاته عن رفض الاستعانة والتواصل مع الخارج، والذي لا تستقيم سياسة دونه.
هنا ينبغي التفريق بين التواصل مع الخارج الذي تقتضيه أية سياسة وبين الاستعانة بالأجنبي والاندراج في أجندته على حساب القضايا الوطنية الداخلية، فالأولى تغدو أمراً مشروعاً وضرورياً، وتكاد تشكل ألف باء السياسة، لأن كل معارضة هي "سلطة بديلة"، ومن واجبها أن يكون لديها رؤية واضحة لسياسة خارجية حال وصلت الحكم، وهو ما يقتضي التواصل مع الخارج وبناء التحالفات، وهو ما يسعى النظام لوأده ضمن سياسته العامة بوأد السياسة، في حين تغدو الثانية أمراً مرفوضا في كل دول العالم بما فيها أكبر الديمقراطيات التي تتيح لمعارضتها العمل بحرية.
هنا لا يمل النظام من تكرار لازمته عن كون معارضيه "مأجورين"،  لأنه يهدف إلى إحياء البعد الثاني معززاً إياه دستورياً ومجتمعياً، قاطعاً الطريق على البعد الأول الذي يسمح للمعارضة بأن تكون بديلاً مقبولاً، ساعياً لحرق كل البدائل ليبقى " الأسد أو لا أحد".
هنا كانت أجزاء كبرى من المعارضة السورية تحقق فعلياً أجندة النظام حين رضخت طيلة عقود لسردية النظام هذه، فلا هي تمكنت نظرياً من بلورة أسس نظرية لكيفية التعامل مع الخارج من منطق وطني لتواجه بها النظام بدل الرضوخ له والمزايدة عليه في هذا الأمر، ولا قدمت تجربة عملية تجعل من علاقتها مع الخارج موّظفة لصالح الوطن بعيداً عن التبعية والاندراج في أجندة لا وطنية،  لا ناقة للسوريين ولا جمل بها كما نرى اليوم.
أهم ما في الثورة اليوم أنها كسرت هذا المحرّم إلى درجة الفوضى، حيث نلحظ التداخل بين التواصل مع الخارج كعلاقة صحية والاندراج في أجندة الخارج اللاوطنية إلى درجة التلاشي، فهل تتمكن القوى الثورية المعارضة في نهاية المطاف من كسر الاحتكار السلطوي لعلاقة الدولة والقوى السياسية مع الخارج، باتجاه أسس علاقة صحية؟


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة 
 

 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق