الدولة الإسلامية في موسكو

الدولة الإسلامية في موسكو
القصص | 30 أغسطس 2014

"صيف 1953 البارد" الفيلم الذي تمّ عرضه في العام 1987، ونال إعجاب الجمهور قبل الجوائز آنذاك، تمحورت فكرته حول بطش الزعيم السوفييتي ستالين وقسوته في إدارة البلاد، ومثل كل الحالات المشابهة، بقي الشيوعيون يجهدون أنفسهم في التماس الأعذار لبطش زعيم الأممية الشيوعية الذي قاد بلاده نحو النصر في الحرب العالمية الثانية، ولم يشفع النصر لغسل عار الديكتاتور والقسوة التي وصمت فترة حكمه.
مات ستالين على سريره في 1953 ميتة هادئة، وبعد ثلاثة أسابيع فقط من دفنه، اشتغل وزير داخليته – ذراع الديكتاتور اليمنى في البطش – بدهاء بالغ على إقناع المكتب السياسي بإطلاق عفو عام عن مئات الآلاف من المعتقلين في السجون السوفيتية الكثيرة خلال حكم الديكتاتور.
بموجب العفو تم تحرير عشرات الألوف من المجرمين الخطرين، دون أن يطال العفو كثيراً من سجناء الرأي والسياسيين. انتشر أصحاب السوابق بعد إطلاق سراحهم في المدن والقرى السوفييتية، ونكّلوا بأهلها ونهبوا واغتصبوا وأجرموا..الخ ، هذه هي مادة الفيلم الأساسية التي اعتمدها المخرج الكسندر بروشكين. 
واعتبر أن الصيف البارد هو امتداد لقسوة الشتاء الروسي (الديكتاتورية). أليس هذا ما ينطبق على ما جرى ويجري في سوريا، بعدما خرج الشعب في ربيع 2011 مطالباً بالكرامة والحرية بصيغة راقية؟، فتعمد النظام على تخريب طبع النقاء للحراك، فاشتغل على إشاعة الفوضى والعنف الطائفي، وأطلق المجرمين من السجون ليتزعموا عصابات تحمل صبغة دينية وطائفية مقيتة، راحت تفتك بالشعب السوري تحت يافطة الثورة؟. 
"موسكو الصغرى" هذا الاسم الذي عرفت به "موحسن" القرية التي تغفو على كتف الفرات الأيمن ولم تكن التسمية بلا خلفيات ملموسة لها، فالقرية التي وقع كثير من شبابها في غرام الشيوعية والأحزاب الأخرى بعد الاستقلال، لفتت انتباه عاصمة الشيوعية فتناولت إذاعتها ذات يوم من خمسينيات القرن الماضي في أحد برامجها عن انتفاضة فلاحي موحسن، ضد الاقطاع عام 1953 ، لهذا السبب وغيره من التواريخ النضالية دفع بعضهم لإطلاق اسم (موسكو الصغرى) على القرية تعبيراً عن روحها النضالية المعقلنة في مرحلة مبكرة من تاريخ البلاد بعد استقلالها.
حتى فترة غير بعيدة كان شباب القرية وصباياها يجمعون المحاصيل الزراعية جنباً إلى جنب نهاراً، وفي المساء كتفاً إلى كتف في الدبكات المختلطة. لم يكن حينها وجود المرأة بجانب الرجال من المحرمات ولم يكن صوتها قد صار عورة بعد! 
في تلك الايام كانت الصبايا يرددن الأهازيج وأنواع الحداء في الحقول الواسعة، لبث روح الحماس بين الشباب الذين لم يعرفوا بعد شيئا اسمه عدم الاختلاط، ولم تنشر هذه البدعة الاجتماعية حتى هاجر البعض إلى دول الخليج، لكسب الرزق وخلال زياراتهم لقراهم صيفاً بدأت الحياة الطبيعية بنسيجها الاجتماعي الفطري الأول تتخرب تدريجياً.
علّق أحد الكهول على التغيّر الذي دبّ فجأة قائلاً: "أيامنا (لعلها العشرينيات أو ثلاثينيات القرن المنصرم) كنا نسبح رجالاً ونساء عراة في الفرات.. نعم عراة كما خلقنا الله أول مرة!! وبعد صمت لحظة أضاف.. كل شيء تغير، بل كل شيء تخرّب منذ أن بدؤوا بنشر "الإسلام الجديد!". يقصد الرجل ما يقول وهو يعني رجال الدين الذين تركوا مبادئ الدين الأولى في المحبة والتسامح والعمل، وراحوا يجتهدون على التفاصيل والمظاهر.
يسترجع الرجال بكثير من الحنين ذكرياتهم في خمسينيات القرن المنصرم، كيف كانت بيوتات القرية الطينية بمثابة مراكز نشطة لمختلف الأحزاب من الحزب الشيوعي والبعث والاخوان المسلمين والناصريين وسواهم، وكانوا يتجادلون كثيراً، وقد يصل جدالهم إلى حد العراك بالأيدي بين الإخوة و أبناء العمومة، انتصاراً لأفكارهم وأحزابهم، كانت تلك لحظات مضيئة بلغت فيها سوريا درجة من الوعي الليبرالي والوطني، لا مثيل له في تاريخها، لكن الحالة لم تدم طويلاً، حتى فرض الحزب الواحد منذ 1963 أسلوبه على الحياة السياسية للبلاد وبدأ مسلسل المنع تحت ذريعة الاستقرار.
فقمعت الأحزاب وتم إغلاق صحفها ومكاتبها وملاحقة منتسبيها وزجهم في المعتقلات.
كانت موحسن من أولى المناطق التي اضطر النظام إلى سحب عناصره منها، لتصبح في وقت لاحق منذ 2011، ملجأً آمناً لعدد كبير من المدنيين والعسكريين المنشقين عن النظام، حتى من مدن سورية أخرى. ولم يتسن لهؤلاء تنظيم أنفسهم والصمود أمام آلة فتك النظام بداية، ثم كان عليهم أن يواجهوا قوات النظام مضافاً إليها قوة التنظيم الأسود "الدولة الإسلامية" وهذا الأخير تمكن مؤخراً من الاستيلاء على العديد من البلدات والقرى في الشمال الشرقي من سوريا، وهو الذي لم يكن قبل أشهر قليلة، معروفاً من أحد في تلك المناطق.
وكما حدث في فيلم " صيف 1953 البارد" عاث أفراد التنظيم المتشحين بالسواد في نسيج "موسكو الصغرى" والبلدات الأخرى التي دخلوها، وانتهكوا الطباع الفطرية الجميلة وهجروا شبابها. ويحاولون فرض أسلوبهم في الحياة وتمت ملاحقة الشبان وذبحهم في مشهد تراجيدي لا شبيه له أبداً.
أعراض الديكتاتورية متشابهة في كل مكان، كما أن طريقة مواجهتها لحراك الشعوب هي ذاتها من حيث الجوهر.


مقالات الرأي لا تعبر عن رأي روزنة بالضرورة انما تعبر عن رأي كاتبها.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق