يحلو لعرّابي السلاح، من ’المثقفين‘ السوريين وغيرهم، أولئك ممن أعلنوا وقوفهم الأعمى مع أحد أطراف الصراع العنفي، والذين تلوثت أيديهم حتى المرافق بالدماء، يحلو لهم أن يدخلوا في علاقة غزلٍ مع الحرب وفظاعاتها. فمن السهل على هؤلاء الحديث عن الحرب من وراء الحدود أو بعيداً عن مرمى النيران ونصال الذبح، بخاصة حين يكون ملوّناً بسردياتٍ ندبيةٍ عن أفعال النظام أو الثورة (حسب الاصطفاف السياسي للمتحدث)، مع استحضارٍ للتبريرات: حماية المظاهرات السلمية، حماية المدنيين الذين يناشدون القوات المسلحة بالتدخل، معارك ’التحرير‘، معارك ’التطهير‘، إعادة ’الأمن والأمان‘ إلخ؛ تبريراتٌ لم ولن تؤتي ثمارها، بل بقيت مجرد مسرحياتٍ خطابية تُضَخمُ أدلجة السلاح، وتنفخُ في بروباغندا العنف، وتحول طقوس سفك الدم إلى اعتيادٍ يومي.
يكرر كثيرون بأن النظام هو الذي جَرَّ شرائح من السوريين إلى حمل السلاح كي يحول الحراك الشعبي إلى صراعٍ عنفي منزوع الشرعية، وفي هذا كثيرٌ من الصحة. لكن من الواضح أن هذه الشرائح المعارضة، والجوقة المثقفة التي صفقت لها، قد قد نفذت تماماً ما أراده النظام بحذافيره: جوقةٌ تدخل الفخ مع علمها بأنه فخ! ثم تعمل على تشويه سمعة كل من حذر من الانتحار الجماعي في هذا الفخ! ولهذا فالحديث التبسيطي عن القطبية الفاقعة في ’سلمية مقابل سلاح‘ ليس سوى دعوةٍ مضمرةٍ لرفض النقاش قبل أن يبدأ، وتمييعٍ لموضوعٍ مصيريٍّ مع الانحشار القسري والمُسْبَق قبالة خيارين اعتاد الإعلام الحديث عنهما في صورةٍ قطبية. إذ يغيب عن عرّابي السلاح أن رفض السلاح لم يستند إلى انفصالٍ عن الواقع أو إلى طوبايةٍ أخلاقيةٍ، بقدر استناده إلى رؤيةٍ براغماتيةٍ مصلحيةٍ عملوا جاهدين على طمسها وتغييبها؛ رؤيةٍ تنبع من قراءةٍ صادقةٍ لما يحدث، ومن إدراكٍ مبكرٍ لواقع الدول الداعمة للتسليح، وللطبيعة المتشظية والمعقدة للصراع المسلح، ولبنية المجتمع السوري سواء على مستوى ضحالة العمل السياسي وغيابه شبه المطلق، أو على مستوى تداخل المكونات الديمغرافية.
لا يعاني المجتمع السوري، وبحكم الاستبداد الطويل، من غياب العمل المؤسساتي فقط، بل من ضعفٍ مزمنٍ لعلاقات الثقة في الشأن العام، ومن هشاشة الأحزاب والقيادات، ومن تشوهٍ في مفاهيم الاجتماع السياسي والمدني. وحتى على المستوى الأهلي التقليدي نلحظ ضعفاً ممنهجاً في العلاقات الوجاهية والقبلية (وهي رغم طبيعتها ما قبل الحداثية إلا أنها قد تلعب دوراً مفيداً في فترات الصراع العنفي، كما حدث في اليمن). يتفاقم هذا الواقع المتصحر، وبتأثير الإعلام الكُتَلي والميديا الاجتماعية، بوجود ميولٍ مبتذلةٍ للتخوين والاستهزاء بأي محاولاتٍ مُخْلِصَةٍ (على نُدْرَتها وهامشيتها وفشلها) لتلافي هذه النواقص المتراكمة. وبالمحصلة يسهم غياب هذه العوامل في تفريغ المجتمع السوري من كوابح الأمان التي كان يمكن لها أن تحافظ على السلم المدني/الأهلي، ما يعني، في حال توفر الظروف المادية والمعنوية، انفلاتاً أكيداً للعنف وفوضى السلاح، وانحرافاً مضموناً عن المسار المفترض للقضية، وبطاقة عبورٍ نحو إماراتٍ حربيةٍ متصارعة وغائمة الحدود والتراتبية والتابعية. فالسلاح سيكون ملكاً لمن يوفره وليس ملكاً للسوريين، والخطط العسكرية، إنْ وُجدتْ، ستصب في أجندة تجار السلاح لا في صالح الشعب السوري. وحين نضع كل هذا مع نظامٍ فاشيٍّ لا تمكن إزالته ’عنفياً‘ إلا بقوةٍ فاشيةٍ مثله أو أسوأ منه، فإننا ندرك عمق الكارثة الجاثمة. أما الصيحات التي تتعالى حول توحيد السلاح فهي ليست تداركاً أو محاولاتٍ للتدارك، بل مجرد صراخٍ متأخرٍ لأزمةٍ متوقعةٍ باتت في حكم الاستفحال.
بالتأكيد العنف ليس ممارسةً مقتصرةً على سوريا أو الشرق الأوسط. فالعنف، وبكل أسف، ركنٌ من أركان المنظومة السائدة في العالم، حيث ما تزال العلاقات بين الدول والجماعات البشرية محكومةً على المستوى العملي بالعنف (تحت مسمى ردْع العنف)، تدعمها خمسة آلاف عام من التاريخ البشري المدمى منذ بدء التدوين. لهذا كانت ’السلمية‘ التي جاءت بها الانتفاضات الشعبية في العقود القليلة الماضية مفهوماً غريباً جداً على المنظومة السائدة، حتى أنها شكلت قطيعةً مع الصورة النمطية لمفهوم ’الثورة‘. وعليه كان من المتوقع أن يخلق هذا الواقع غير المسبوق تحدياً غير مسبوق: تحدياً يقف في وجه الأيديولوجيا البشرية العنفية؛ على مستوى الأنظمة القمعية التي تعيش على ارتكاب العنف، أو الثقافات والتقاليد السائدة التي تجعل من العنف قيمةً إيجابيةً بعد تغليفه بمصطلحات البطولة. ويمكن القول أنه كلما كانت المجتمعات والأنظمة أكثر تقليديةً، وأكثر تمجيداً أو اعتماداً على العنف على مستوى الفانتازيا التاريخية والقصص الشعبي الملحمي، كانت إمكانية احتقار ’السلمية‘ أكبر؛ فهذه ’السلمية‘ تمثل قيمةً غريبةً وغير متجذرة في البنى المتوارثة في العقلية السائدة.
بكل الأحوال فالتغيير ضرورةٌ حتمية لكل المجتمعات، لكن الأساليب تختلف باختلافها. وعلى القائمين على عملية التغيير، إن أرادوا تغييراً ناجحاً، أن يبتكروا الأساليب المثلى والأكثر أماناً وضماناً بعيداً عن الأفكار والسيناريوهات الجاهزة والمسبقة. ولقد كان رفض السلاح وما يزال الحقيقة الأصوب في هذا المشهد المدمى حتى لو استدعى ذلك فترةً أطول لتحقيق أهداف الحراك. وللمقارنة، فقد مضت أكثر من ثلاث سنوات لم تتحقق فيها أهداف الحراك الشعبي، هذا عدا عن الفوضى العميمة التي تجتاح البلاد، والكلفة الهائلة التي تدفعها سوريا وشعبها دون وجود آفاق لحلول قريبة.
هناك من سيقول: جرب السوريون ’السلمية‘ ستة شهور دون نتيجة”، لكن باستخدام المنطق ذاته نقول: “جرب السوريون السلاح لمدة تقرب من ثلاثة سنوات دون نتيجة مع كلفة بشرية ومادية هائلة، عدا عن تحويل سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة، ونقطة جذب للمتطرفين، فضلاً عن تشويه كثير من المسلمات التي كان يمكن أن تجمع السوريين؛ كالوطن والدولة السورية، وغيرها”. ألا يستدعي كل هذا التسليم بالفشل الذريع والمكلف للخيار العنفي؟ لا شك في أن إدراك هذه الحقيقة، التي يسعى أصحاب الصوت العالي إلى تغييبها في صورةٍ كَيْدِية، أفضل بآلاف المرات من خطابات الندب على أطفال سوريا وعلى الشعب المشرد والدولة المتهالكة والاقتصاد المهشم. فالنباهة ليست في ندب ضحيةٍ سقطت أمام جلادٍ متوحش، بل في منعها من التحول إلى ضحية، وفي الحرص على عدم المساهمة في صناعة هذه الضحية أصلاً، ناهيكم عن حمايتها من التحول إلى جلادٍ جديدٍ يتحالف، دون أن يدري، مع الجلاد القديم الذي لم يسقط!
مقالات الرأي لا تعبر عن رأي روزنة بالضرورة انما تعبر عن رأي كاتبها.