"مكافحة الإرهاب" حين تغدو حاضنة للإرهاب

"مكافحة الإرهاب" حين تغدو حاضنة للإرهاب
القصص | 26 أغسطس 2014

تحوّل شعار "مكافحة الإرهاب" منذ منتصف عام 2013 تقريباً وحتى اليوم إلى الشعار الأكثر تواتراً في المنطقة، في سباق محموم على الاستحواذ على الشعار، لنكون أمام تداخل غريب وفج، بين إرهاب حقيقي يجب مكافحته حقاً، وبين إيديولوجيا "مكافحة الإرهاب" التي تُسوّق بغية طمس شعارات الحرية والديمقراطية  ، وإعادة الشعوب إلى بيت الطاعة، وللتغطية على الإرهاب الحقيقي سواء كان سلطوياً أم أصولياً.

كان النظام السوري الخبير والمتمرس في هذا النوع من المعارك أوّل من تحدث عن الإرهاب،  وقدّمه عنواناً أوحد لمقاربة الثورة السورية التي اعتبرها إرهاباً منذ لحظتها الأولى، ممهداً الطريق بتصرفاته المقصودة لصناعة حاضنة له في الأرض السورية، إذ استبدل قانون الطوارئ الذي طالبت المظاهرات بإزالته بقانون "مكافحة الإرهاب" الذي لم يفعل إلا أن استبدل تهم "وهن نفسية الأمة" و"إثارة النعرات الطائفية" بتهمة "الإرهاب" التي يحاكم في ظلها اليوم الناشطون السلميون وعاملو الإغاثة والأطباء،  جنباً إلى جنب مع حملة السلاح والإرهابيين الحقيقيين، في محاولة منه لجعل كل معترض عليه في مركب "الإرهاب".

 كعادته في الاستفادة من المتغيرات الدولية وقراءتها بشكل صحيح لتوظيفها في خدمة بقائه، استفاد النظام السوري من المناخ الذي طبع "الربيع العربي" بعد مقتل السفير الأمريكي في ليبيا ودخول النصرة والدولة الإسلامية والإسلامويون ( الذين أخرجهم من السجون) إلى قلب الثورة السورية لإفراغها من الداخل، مسنوداً بتوافق روسي إيراني صيني لا يكف عن تسويق "مكافحة الإرهاب" عالمياً، ومحاولة فرضه بنداً أوحد على بيان جنيف السوري لتفريغه من محتواه الحقيقي، في محاولة روسية لوراثة دور واشنطن في مكافحة الإرهاب عالمياً، حين رفعت الشعار ذاته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، خدمة لأهداف ومصالح أخرى لا علاقة لها بمكافحة الإرهاب من قريب أو بعيد.

بعد سوريا رفع الحكم الجديد في مصر شعار "مكافحة الإرهاب" بوجه الإخوان الذين تم إقصاؤهم عن السلطة، حيث تحوّل الشعار إلى أداة استئصال للإخوان سياسياً، إذ أُعلن التنظيم الذي كان في السلطة "تنظيما إرهابياً" بما يذكرنا بأيام الانقلابات العسكرية،  حين كانت السلطة السابقة تصبح بين ليلة وضحاها "رجعية" و"غير ثورية"،  و"تابعة للإمبريالية" في أدلجة لمفهوم الإرهاب كما تمت أدلجة مفاهيم الحرية والثورة والاشتراكية، فتحوّلت إلى مجرد مسخ ترفعه السلطات يافطات لإسكات شعوبها والتغطية على عجزها.

ولأن كل أدلجة لا تكتمل دون بروباغندا وتحشيد، نجد كيف يعمل رؤساء هذه الدول والسياسيون وقادة الأحزاب والإعلام التابع لهم على تكثيف الحديث عنه، وتضخيم خطره ( وهو خطر بالـتأكيد) بغية صناعة الوحش وتربيته، ففي دمشق باتت البوسترات الملصقة على الجدران تتحدث عن الإرهاب، وبات رجال أمن النظام يتجوّلون في الشوارع ببذلات مكتوب عليها "مكافحة الإرهاب" في فعل مقصود ومتعمد لإقناع الجمهور بوجود الإرهاب، لتحويله إلى شعار المرحلة، وفي مصر يكفي جولة سريعة على عناوين صحف النظام الجديد ومقدمات تلفزيوناته لنجد كيف تحوّل الأمر إلى سعار لا يحكمه عقل أو منطق في إسفاف ما بعده إسفاف، دون أن يعني ذلك عدم تواجد الإرهاب في سوريا أو مصر.

يؤدي الشعار مؤداه حين يتحوّل إلى إيديولوجية، لأن محتواه يصبح مقدساً وعصياً على النقد، بعد أن يتم تحريض الجماهير وتعبئتها غريزياً، فالإرهاب هو الإرهاب: الشر المطلق الذي لا يناقش، فيصار إلى تعطيل العقل لإيجاد ذريعة لتعطيل القوانين وعدم مناقشة الأحكام الصادرة عن القضاء، لنصبح أمام طوارئ جديدة تلبس لبوس الإرهاب. ولهذا لا يسأل أحد اليوم عن كون نشطاء سلميين وإعلاميين وعاملين في مجال الإغاثة في سوريا يحاكمون بتهمة الإرهاب؟ ويصدر القضاء المصري قراراً بإعدام عناصر تابعة للإخوان، فهم إرهابيون وكفى! دون أن يحق لأحد الاطلاع على فحوى هذه المحاكمات ومعرفة القرائن والدلائل التي قدمت ضد هؤلاء وأدت إلى إدانتهم، فالإرهاب سر من أسرار الدولة ولهذا يحاكم متهموه سراً. وعلمتنا التجارب أن كل سر لدى السلطات المستبدة يعني أن هناك ما تغطي عليه وتخبئه عن شعوبها، وعلى رأسه: إرهابها الفالت من أي قيد أو تشريع.

الطامة الكبرى أن إيديولوجية "مكافحة الإرهاب" تهيئ الأرضية اللازمة حقاً لنشوء وتوّطن الإرهاب الحقيقي، لأنها تقتل الحساسية الشعبية حين تحوّله إلى شعار يحاكم تحته كل معارض لهذه السلطات، فتخلق فراغا يستغله الإرهابيون الحقيقيون، مستغلين تعاطف الجمهور مع كل متهم بالإرهاب على أنه معارض ومناضل بوجه السلطة التي يكرهون، فتخلق بذلك أرضا ينمو بها الإرهاب بعد تعطيل المراقبة الشعبية، وهو ما نراه عمليا في ازدياد كمية الإرهاب في المنطقة مع تواتر وتكاثف الحديث عن محاربته.


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق