آلام سورية ممكنة

آلام سورية ممكنة
القصص | 11 أغسطس 2014

مقالات الرأي | تقول الأخبار "عاد 1700 على الاقل من السوريين اللاجئين في بلدة عرسال اللبنانية التي شهدت معارك دامية بين الجيش والجهاديين، الى بلادهم"، وإن "المفوضية العليا للاجئين موجودة على الحدود لمساعدة هؤلاء اللاجئين الذين اختاروا العودة بملء إرادتهم". ومن قبل عاد الكثير من السوريين إلى بلادهم "بملء إردتهم" أيضاً، من مصر ومن الأردن وتركيا بعد أن عانوا ضروباً من الإذلال. حتى بات اللاجئ السوري واقع بين نارين، نار الذل في بلاده (مع احتمال القتل) أو نار الذل خارج بلاده (وبات احتمال القتل وارداً أيضاً). بين هذين النارين هناك من اختار المخاطرة والإبحار إلى بلاد تعترف بحق اللجوء والحماية والكثيرون منهم ماتوا غرقاً في البحر دون ذلك، مخلفين وراءهم قصصاً وأحداثاً تكاد تنكسر النفس أمامها، هذا عدا عن القصص التي اندثرت لأنه لم يبق على قيد الحياة أحد يرويها. 

إذا ركزنا النظر على حركة نزوح المدنيين من وإلى سوريا خلال السنوات الثلاث المنصرمة، نجد أن موجات النزوح الشعبي الكبيرة اتجهت إلى تركيا ثم إلى الأردن ثم إلى لبنان بحسب تنقل الموقع الجغرافي للمناطق الساخنة. تلا ذلك موجة نزوح أقل "شعبية" إلى مصر، ولاسيما خلال الحكم "الإخونجي" الذي لم يستمر أكثر من سنة. وقد تحولت هذه الدول، خلال السنة المنصرمة، من دول محتضنة للنازحين (يذكر الجميع  كيف زار وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو مخيماً للاجئين السوريين في بداية الصراع وراح يحمل الأطفال ويلاعبهم ويقدم لهم الهدايا ويطمئن إلى أحوالهم) إلى دول طاردة لهم بنسب متفاوتة، وذلك تحت ضغط الأعباء المالية والأمنية التي ترتبت على الكم الكبير من اللاجئين، مع ضبابية أفق التغيير في سوريا. 

مع الوقت بدأ يظهر التذمر الشعبي في معظم البلدان المضيفة، وراح يتغلب أكثر فأكثر على حس التضامن العام وعلى واجب الضيافة، على اعتبار أن اللاجئين السوريين راحوا ينافسون الأهالي على الموارد وعلى فرص العمل، فضلاً عن تأثير الاحتكاكات التي تنجم بشكل طبيعي في مناطق الاستضافة. ومع الوقت بدأت سياسة الدول المضيفة تتبدل ذلك لأن التطورات السياسية والعسكرية في سوريا والإقليم والعالم، جعلت الاستثمار السياسي لموضوع اللاجئين السوريين قليل الجدوى مقارنة بالعبء الاقتصادي والأمني الذي يشكله. كل هذا أرغم اللاجئين السوريين على مراجعة حساباتهم والتفكير بحلول منها العودة إلى سوريا،  رغم المخاطر على  نفوسهم ونفوس أبنائهم ورغم ما ينتظرهم من هوان أو اعتقال أو موت ربما.

مأساة السوريين إنهم خرجوا من ديارهم مقهورين ويجبرون اليوم على العودة مقهورين، وربما منعتهم قوات النظام من العودة فوق ذلك، فيصبحون في حال لا سماء ترفعهم ولا أرض تحملهم. إنها مأساة شعب أراد أن يستعيد كرامته فتوافقت على هزيمته كل القوى العدوة منها و"الصديقة". 

يقول الخبر الذي اقتطفته في مستهل المقال إن ثمة سوريين يعودون إلى بلدهم "بملء إرادتهم". لا أحد يريد أن يتحمل المسؤولية عن عذاب النازحين السوريين. فقد اختار هؤلاء أن يعودوا، هكذا من تلقاء أنفسهم دون أي أسباب تقهرهم على "خيارهم" هذا. لم يرغمهم أحد، لم يقصف خيمهم أحد، لم يدع أحد في الصحف إلى قتلهم، لم ينظر إليهم أحد في الطرقات على أنهم سبب بلاء لبنان وانقسامه الطائفي وحروبه الأهلية وفقره بالغاز ..الخ، ولم يصبح السوري في لبنان "ملطشة" لقوى الأمن على اعتبار أن النازح السوري هو إرهابي كامن. لم يحدث شيء من هذا، كل ما في الأمر أن السوريين يعودون "بملء إرادتهم".

والنظام من جهته يحبذ أن يقال لقد عاد السوريون "بملء إرادتهم" لأن ذلك يوحي بنوع من الصحوة بعد سكرة الثورة، أو قد يوحي بنوع من "التوبة"، أو الإقرار بالهزيمة. كل ذلك محبذ ومرغوب من جانب النظام. كل شيء من زاوية نظر النظام السوري قابل لأن يكون سلاحاً في المعركة ضد المجتمع، القتل والجوع والغربة والتخويف والتطرف بأنواعه..الخ. النتيجة المتوخاة دائماً هي الوصول إلى "شعب طيع الأعناق". 

اللافت أن النظام السوري يمنع نازحين من العودة إلى بلادهم رغم أنهم يعودون برؤوس منكسة وأحلام مهزومة، وفي الوقت نفسه يمنع النظام معارضين سوريين من السفر رغم أنهم يخرجون تاركين وراءهم كل شيء. في لحظات معينة يبدو أن الدولة التي تستعمر المجتمع لا تتصرف بما تمليه عليها الضرورات الأمنية والذكاء الاستخباراتي والتفكير بالديمومة، بل تتصرف وفق نزوات شخصية ضيقة الأفق وانفعالية. لا شيء آخر يبرر مثل هذا التشفي الذي تتعامل به "مؤسسات" النظام مع تابعيها. حين تستخدم السلطة السياسية جهاز الدولة لاستعمار المجتمع المنتفض وسحقه، فإنها تضع نفسها على طريق التفكك السريع، ولاسيما حين تكون دولة فاقدة لأي مشروع أو أفق سياسي. 

مقالات الرأي لا تعبر بالضوررة عن توجهات روزنة.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق