كنّا نريدها.. تلك التي أبت أن تكون حربنا!..

كنّا نريدها.. تلك التي أبت أن تكون حربنا!..
القصص | 31 يوليو 2014

دأب خيالي على تصوّر الحرب في هيئة مقاتل يلفّ رأسه بكوفيّة، يودّع حبيبته بقبلةٍ، ثم يغيب مع بارودته الظّلام. بقيتُ متمسكاً بهذه الرومانسيّة نكاية بالمحطّات الفضائية التي جعلت الحروب مضماراً للسباق على التغطية، للحرب على الشاشات، ربما ليصل الجميع إلى الإحساس بأنّ تلك الحروب لم تحدث كما علّق جان بودريار. إضافة إلى ذلك.. ثمة شعور جمعيّ بأننا في حربٍ رغم عدم وجودها. فخلال حياتنا في هذه البلاد، وحياتها فينا، ظلّت الحرب تُقدم وتُحجم، تطل وتختفي. ولنتذكر هنا جملة، صحيح أن قائلها هو هاري ترومان، لكنها تستحق الذكر: "غياب الحرب ليس سلاماً".. نعم ليس سلاماً لأنه يحمل حرباً أخرى ومن نوع أشد، حيث دواخلنا هي ساحات المعارك. لم تكن الحرب، الحرب كخلاص، تتدّلل علينا بمقدار ما كانت، وهذا ما نعرفه جيداً جداً، تؤجّل مجيئها حتى تأتي كاسحة في عنفها، وشاملةً في معناها، حيث ستحتوي كل أشكال الحروب المعروفة وغير المعروفة: الحرب الوطنيّة، الحرب المقدّسة، الحرب الأهليّة، الحرب القذرة، الحرب الباردة.. وبسبب هذا انتقلنا سريعاً بين المراحل، من الانتفاضة مروراً بالثورة وصولاً إلى الحرب.. بقفزة واحدة غير رشيقة. مرت المراحل سريعاً لا لكي تأتلف في المرحلة الأخيرة، بل لتكون هذه المرحلة خلطاً كليّاً لكل عنف التاريخ والأزمنة، منذ مقتل هابيل إلى آخر سلاح تحت الاختبار. ما نعرفه أنّ هذه البلاد تحتاج إلى حرب، فالفساد عميقٌ عمقَ الأفكار المقدّسة. التّراب الوطني لفّقته خريطة استعمارية، لا الهوية صاغته ولا قوة التاريخ ولا تواطؤ الجغرافيا. التعايش الأهليّ هشّ ومغطى بالنفاق والممالأة، هشيمه قابل للاشتعال، و"الإخوّة الأعداء" ينتظرون إشارة. الهوية التي تقول الشّعارات إنها على ما يرام تعاني كسوراً من تلاحق الهزائم وتوالي النّكبات، ولم يأتِ ذلك المشروع الحقيقيّ الذي يعمل على بنائها من الدّاخل لتخوض تجربتها التاريخية في تفاعل مكوناتها والعالم. كنا نريدها حرباً من أجل جوع الأرواح إلى خبز الكرامة وهواء الحرية، ومن أجل أن نكون شعباً واحداً أو لا، فمن الصحيح أن الحرب منتهى البشاعة، لكن ليس سواها من مثلها يصلح لتطبيق الحكمة الكبيرة "آخر العلاج الكيّ". ثم اكتشفنا، بقليل من الوقت، أنها ليست حربنا، ليست ما نريده. بل على العكس تماماً هي ضدّ كل ما يمكن أن نريده، أو على وجه الدقة، ضد أن يكون لنا الحق في أن نريد. الآن نعرف لماذا حدث ما حدث. لأنّ التحدّث عن الحسم وانتظاره بروح المغلوبين هو أول أسباب اللا حسم، أو هو طريقة حسمٍ بمقاييس أخرى ليست مقاييسنا بطبيعة الحال. نحن عالقون!.. لأننا أعدنا الأشياء التي نعرف أنها أعيدت مراراً وتكراراً، بل وبالأسلوب نفسه. ولأننا صدقنا الأشخاص الذين سبق وأن كان أشباههم يقودون المركب إلى الهاوية في حرب لبنان واحتلال العراق. ألم يكن الجميع واثقين بأن الأسوأ قادم، لماذا لا يفطن أحدٌ منهم إلى التقليل من سوئه، أو إلى دق ناقوس الخطر مثلاً؟ سيقولون ثمّة من فعل، وسنقول نعم، لكنه فعلها من موقع لا يلتفت إلى حسابات الناس، وقالها بلغة لا تشبه لغة الناس. الناس الذين قتلوا أو شتّتوا أو خسروا أسباب الحياة، ثم جاء أولئك ليدرجوهم كمواد في حساباتهم الخاصة للنصر، وليس غير. حدث ما لم يكن في الحسبان، لأن الوطن المكتشف فجأةً كان كارثةً على مكتشفيه، فهو لم يأت من سؤال عميق، بل من حَدَثٍ لا يعدو كونه ورطة إيديولوجية أو دعاية سياحية لأوابد أو تأويلاً مقدساً أو تعسفاً استعادياً.. وليس أياً منها قادراً على انتشال الوطن من معمعان الحرب.. أو تفاديها.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق