العبثية المستفحلة في سوريا

العبثية المستفحلة في سوريا
القصص | 20 يوليو 2014

 ترى أَلَمْ تتخطى "الكلفة" التي تدفعها سوريا وشعبها "القيمة البَخْسة" لقذارات الصراع على السلطة في ظل الديكتاتوريات المهترئة؟ سؤالٌ علينا توجيهه إلى إجرام السلطة وإجرام المعارضة، وإلى كلِّ من استرخص الدم السوري على مدى ما يزيد على سنواتٍ ثلاث. سؤالٌ على أي مراقب للمشهد السوري أن يطرحه في حسابات الربح والخسارة، وفي ميزان الجدوى والتكلفة، وأن يجيب عليه دون الاختباء وراء الأحلام والتبريرات، ودون اللجوء إلى بيع الوهم والكلام الإنشائي.

تغير المشهد وبات أكثر ألماً، وغدتْ سوريا دوامة من العنف والعنف المضاد، وساحة حرب بالوكالة. صار السلاح أكثر البضائع رواجاً في البلاد، أما الحدود فمشرّعة لآلات القتل وأمراء الحرب. إلا أن أصحاب الصوت العالي من كل الأطراف ما زالوا مختبئين وراء خطابهم الخشبي المنفصل عن الواقع. يغيب عن هذا الخطاب أن سمو الهدف لا يشرعن تلقائياً الوسيلة، وأن الوصول إلى الهدف مرتبط بتوفر الإمكانات والوسائل المتاحة، وأن معرفة الخصم، والتعامل معه على أساس هذه المعرفة، جزء من الدفاع عن مشروعية القضية وسببٌ من أسباب نجاحها. لكن للأسف لم تعمل هذه الهوة الشاسعة -التي تفصل بين الهدف وبين إمكانية الوصول إليه- على عقلة الحدث السوري وتعديل مساراته، بل تُرك الحدث فريسةً للاعتباطية والفوضى. ومع تخوين وإقصاء كل صوت عاقل، وبروز التدخلات الإقليمية والمنابر الإعلامية الصفراء التي أججت عنف كل الأطراف، تحوّلت الاعتباطية إلى خنجر يطعن القضية ويفرغها من محتواها، مع السقوط في الغرائزية والتشبُّث بالمواقف: سواء كانت تحت شعارات الرومانسية الثورية أو فاشية النظام. أما النتيجة فهي امتلاء المشهد السوري بالعبثية؛ العبثية في أسوأ تجلّياتها، حتى باتت علامةً فارقةً للحدث.

تبرز هذه العبثية في التهييج الطائفي الرخيص، وفي تغوُّل منطق القهر والغلبة، في الإصرار على كسر السوري "الآخر" وإهانته، في الفرح بذبح السوري "الآخر" وسفك دمه، وفي الشروخ والانقسامات العميقة في المجتمع السوري. نرى العبثية في تهافت الانتماء الهش إلى سوريا الوطن، في الارتهان الذليل للخارج وسلب الإرادة وتكبيلها، في تحول أتباع المعسكر الروسي أو الأمريكي إلى أبطال في نسخة سورية أليمة ومُهينة وركيكة، وفي الإعلاء من صناعة الموت، وشيوع الخطاب الندبي، وفي الكم الهائل من الكذب الممارس. يضاف إلى ذلك التنكس الرجعي إلى الوراء تنموياً، وترسيخ التخلف والجهل والفقر والمرض.

أما قمة العبثية فتتجلّى في الحديث عن "الانتصار"، فمثل هذا الحديث ليس سوى تأكيد مرير على هزيمة الإنسان على الأرض السورية. يتفاقم كل ما سبق مع عدم امتلاك الشجاعة على الاعتراف بأن الحقيقة ليست ملكاً لأصحاب الصوت العالي (بغض النظر عن اصطفافاتهم)؛ أولئك الذين ملؤوا الأثير العام بوعودهم الكاذبة وكانوا سبباً في تحويل سوريا إلى بركةٍ من الدماء.

لقد همّشت العبثية التي أصابت الحدث السوري أهداف التغيير الاجتماعي والسياسي، حتى بات الحديث عن قضايا الكرامة، والعيش الكريم، والحريات الأساسية، واحترام الإنسان مدعاةً للتهكم والسخرية في مجتمعٍ منهك (مع أن كثيراً من السوريين ضحّوا بحياتهم في سبيل تلك الأهداف).

هنا يحق لنا أن نتساءل: ما الذنب الذي اقترفه السوريون كي تتقلص أحلامهم إلى البقاء على قيد الحياة حتى صباح الغد؟ ما الذنب الذي اقترفوه كي يتاجر أمراء الحرب بدمائهم؟ وما ذنب سوريا في أن تدخل حرباً  عبثية لتصفية مصالح إقليمية ودولية؟ هل يستحق التشبث الجنوني للسلطة بالكرسي كل هذا؟ أو هل يستحق انتزاع السلطة عن الكرسي كل هذا؟ وهل يكفي أن نغطي عَورة الكارثة بأسماء من قبيل "الثورة" و"الشعب" و"الوطن" و"الممانعة" كي نبرّر ما يحدث؟ لكن ماذا عن قادم الأيام؟ وهل يمكن لما يحدث أن يأخذ بالسوريين إلى تعاقد جديد ودولة جديدة؟ أو أننا أمام تقسيم ديمغرافي وجرح عميق في الذاكرة الجمعية يصعب اندماله؟،  هذه أسئلة ثقيلة، نهربُ منها، ربما لأنه من الصعب الإجابة عليها الآن. لكن لا بد من امتلاك الشجاعة للاعتراف، في هذه المرحلة على الأقل، بأن الصورة قاتمة، خاصة مع تحوّل دُعاة المدنية والتعددية والقيم الوطنية والإنسانية الجامعة إلى أقليةٍ بكل معنى الكلمة؛ فهم إما قد انسحبوا نهائياً، أو فضّلوا الصمت ومراقبة المشهد بحزن، أو الاستمرار في نضالهم مع تعرضهم لأخطارٍ جمّة من كل الأطراف العنفية.

ما يحدث الآن في سوريا هو إخراسٌ لملايين السوريين، وتحكُّمٌ بمصائرهم من قبل عشرات الآلاف من حملة السلاح المحسوبين على النظام والمعارضة، ومن قبل حفنة من الأصوات التي شاءت الأقدار وأتقنت فن الكتابة المسمومة، لتملأ الأثير الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي بكل ما يكفل تعميق الانحطاط والدمار لأجيالٍ قادمة. كل ذلك في سياق توازنات دولية وإقليمية لا تبالي بمعاناة السوريين.

ما يحدث الآن في سوريا، وربما في عموم المنطقة، هو انكماش للأمل، وغياب للهدف، وسقوط للأقنعة التي اعتاد البشر ارتداءها كي يخفوا قباحاتهم: تنكس بدائي للإنسان إلى حالته الأولى، إلى حالته الغرائزية البهيمية، إلى حالته التي تتخلّى عن كل الغايات والقيم العليا، لتحل محلها الرغبة في الإفناء، في الاجتثاث، وفي العَدَمية، وفي اللاشيء. عبثيةٌ تستمد اللامعنى من اليأس والإحساس العميم باللاجدوى، من استنقاع الأفكار وركودها، من استعصاء الحلم والوسيلة، ومن لعنة الجغرافيا السياسية وقذارة الصراع على السلطة، ، ومن إرث ثقيل يبدو أن جيل اليوم يدفعه، نيابةً عن جيل الآباء والأجداد، كضريبة للخنوع للاستبداد طيلة عقود وقرون.


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجه روزنة 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق