"فن الممكن" على حد تعبير ميكيافيلي الشهير في تعريفه للسياسة، هو ذلك الذي يصب في مصلحة الدولة أو الأمة، أما حين تقتصر مهمتها في الحفاظ على النظام/ السلطة، فذلك لا يدخل في جوهر المصطلح بقدر ما يقترب من هواجس العصابة، على اعتبار أن النظام غير الدولة.
نظامان وشعب واحد في كوريا لكن الفرق شاسع ما بين الرخاء الذي تتمتع به كوريا الجنوبية والحياة النكدة في توأمها الشمالي مع أن الشعب والظروف والجغرافيا واحدة، لكن النظام مختلف في كل منهما. وفي نموذج إيجابي آخر، دفع نيلسون مانديلا 27 عاماً من الاعتقال ثمناً لحرية شعبه، وبعد خروجه من السجن فاز بمنصب رئاسة البلاد في أول انتخابات، وخاطب شعبه بهذه المناسبة قائلاً: "إنه لشرف عظيم لي أن أكون خادمكم" وتخلّى عن منصبه طواعية بعد ولاية واحدة، وحين توفي شكّل مأتمه تجمعاً لا سابق له، لأكبر شخصيات العالم وخرج مواطنوه منذ ساعات الفجر الأولى لحجز مكان لهم في الملعب – مكان التأبين.
أما في سوريا فالمقارنة مجحفة مع أي نموذج، وكانت أربعة عقود من استيلاء النظام فيها للسلطة كافية لتدمير التاريخ والحاضر والمستقبل للبلاد. تمرس النظام السوري خلالها في أخذ الدولة والمجتمع رهينة للحفاظ على السلطة، متوهماً أنه هو الدولة وهو الأمة.
امتلك النظام قوته داخل المجتمع السوري عبر إحكام دائرة الخوف وإشاعة الفساد وإحاطة نفسه بشبكة من المتكسبين، كما وكسب نفوذه الإقليمي عبر التضحية بالآخرين، حدث ذلك مع الفصائل الفلسطينية حين تبنّى بعضها بحجة دعم نضالها لتحرير فلسطين، بالمقابل لم يكلّف النظام نفسه عناء إطلاق طلقة واحدة على جبهة الجولان! وتكرر ذلك بمهارة لاعب السيرك في لبنان، حتى بات يتحكم بإدارته عن بعد عبر مؤامرات وتحالفات يصعب حصرها، واستغل النظام ظروف الأزمة اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي حتى تسنى له الاستيلاء على القرار اللبناني، فعمد لتمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي بشكل ينتهك طريقة الحكم في لبنان، وافتعل حروباً وهمية مع عدة أطراف لبنانية ، ولعلّ آخرها مع القوات الحليفة للجنرال عون إلى أن انتهت في 1990 بإقصائه إلى فرنسا، ثم ما لبث أن أصبح الجنرال أقرب حلفاء النظام السوري بعد سنوات.
وعلى صعيد "النضال القومي" الذي أكل رؤوس السوريين به لكنه (النظام) وقف مع إيران الفارسية ضد العراق الذي يقوده الجناح الآخر للحزب نفسه. وفي 1999 تم شطب لواء اسكندرون من خارطة سوريا، حين هددت تركيا النظام السوري لدعمه فصائل حزب العمال الكردستاني. وبعدها ضحى بالآلاف من السوريين والعرب والمسلمين بذريعة الدفاع عن العراق من الاحتلال الأميركي له عام 2003 ، وقبل أن يجف دم المجاهدين في أرض العراق عمد النظام السوري إلى إفشاء ما جمعه من معلومات حول الجهاديين الذين كانت سوريا معبرهم الأساسي للوصول إلى العراق ووهبها للأمريكان مقابل الإبقاء عليه.
الطريقة نفسها يتم اتباعها في معالجة الأزمة السورية، فحين دنت ساعة العقاب على استخدام النظام السلاح الكيماوي ضد الشعب عمد إلى التضحية بمخزون الأسلحة الكيماوية، بيضة القبّان في التوازن الاستراتيجي المزعوم. سلسلة الحوادث المشابهة لا تحصى على المستويات كلها، وكان هناك دوماً ما يمكن التضحية به عند اللزوم لإبعاد الخطر عن الحلقة الأساسية للنظام.
ليس لدى النظام ما يخسره طالما أن عقيدته الأساسية الدفاع عن النظام وفقط، وليس لديه ما يخسره طالما أن البراميل الذكية لا تقتل إلا الإرهابيين. وطالما أن أنظمة شبيهة كالنظام في إيران وروسيا مستعدة لتزويده بالمال والسلاح حتى يهزم غيره ونفسه ولا تهمه الإحصائيات المرعبة التي نشرت جريدة الحياة في وقت سابق جزءا منها. وتشير إلى خسارة سوريا 10 ملايين ليرة كل دقيقة، ويهجرها 300 شخص كل ساعة، ويفقد يومياً 2500 شخص القدرة على تأمين قوتهم، ويُقتل 6000 شخص كل شهر، ومع كل سنة تستمر فيها الأزمة تتراجع البلاد ثماني سنوات في المؤشرات الاقتصادية والتنموية.
لا يهم النظام السوري أن تصبح مسارات حلول الأزمة خارج البلاد، ولا أن يصبح البلد ومستقبله رهينة بيد العديد من القوى التي فتح لها النظام الباب على مصراعيه. رحم الله من قال الاستبداد يجلب الاستعمار.
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن توجهات روزنة