في السابع من شهر آذار عام 2011، أي قبل أسبوع من اندلاع انتفاضة الشعب السوري، أصدر النظام عفواً عاماً شمل القضائيين كالعادة واستثنى المعتقلين السياسيين من "رحمته". يومها كان النظام يحاول تفادي موجة "الربيع العربي" عبر رشوة المجتمع بعفو عن السجناء المدنيين دون التساهل مع المعارضين السياسيين. اعتاد السوريون أن يستثني العفو "الجرائم التي تمس بأمن الدولة" وهو التعبير الذي يرمي ستائر من نكران الحقوق على كل المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي وكل معتقل لا يروق لأجهزة الأمن. الفكرة الدائمة هي عزل المجتمع عن السياسة وحصره في دائرة هموم ما دون سياسية. وكان يتم تعزيز هذه الفكرة بتعزيز صورة أجهزة الأمن على أنها قدر لا رادّ له، يعطي ويمنع. مما يجعل الدولة الرسمية وهياكلها الدستورية والقانونية مجرد ديكور خال من السلطة إلا بقدر ما تسمح به الدولة الخفية المتمثلة في الأجهزة الأمنية.
يعلم السوريون أن السلطة الفعلية تكمن في أماكن بعيدة عن الأضواء، وأن ثمة تناسب عكسي بين مستوى السلطة الفعلية للمسؤول وبين مستوى حضوره الإعلامي والرسمي. كل ذلك لتكريس أن السياسة هي دائرة النار، هي الدائرة المحرمة التي يتعين تحصينها ورجم كل من يدخلها إلا من تحت إبط النظام وبإشرافه.
غير أن المجتمع السوري دخل دائرة النار مع ذلك وبتصميم مدهش، كما لو أنه كان خلال العقود السابقة يراكم عزيمته كي يطلقها في أواخر آذار 2011 ويستمر بها حتى اليوم رغم كل شيء. وفشلت كل محاولات النظام في طرد الجمهور السوري من هذه الدائرة وإعادة احتكارها. لذلك صار هذا الجمهور برمته تحت طائلة الاعتقال في الحد الأدنى، وتحت طائلة التشريد والقتل والاستباحة التامة فوق ذلك.
عشرات آلاف المعتقلين السوريين يختفون في أماكن مجهولة بعيداً عن حكم أي قانون إنساني، تتحكم بهم سلطات ضعيفة الضمير، متروكين للإذلال والجوع والمرض والموت. يأتي اليوم مرسوم العفو الرئاسي للعفو عن "جرائمهم" فيما الجريمة الفعلية هي احتجازهم وتعذيبهم وإذلالهم. صاحب الجريمة الفعلية ينسب لهؤلاء المعتقلين جرائم هلامية من نمط "المؤامرة" و"إضعاف الشعور القومي" و"الترويج للأعمال الإرهابية" .. الخ ثم يخرج على الناس بهيئة من يمنح العفو.
يريد النظام من هذا العفو أن يوجه رسالة إلى المجتمع السوري بأنه نظام متماسك بعد كل شيء ورغم "المؤامرة"، وأنه على سابق عهده يصدر عفواً "أبوياً" بعد "الانتخابات التعددية" كما كان يصدرها بعد "الاستفتاءات". وأنه لا يزال يحوز على السلطة العمومية التي تمتلك حق إصدار العفو العام. وأنه "انتصر". ويأتي ذلك كله في سياق سعي النظام للتطبيع المستحيل مع المجتمع السوري.
بين العفو الأول الذي صدر قبل أسبوع من اندلاع الثورة، والعفو الحالي الذي صدر بعد أسبوع من "انتخاب" الرئيس، دمرت سوريا وقتل وسجن خيرة أبنائها وشرد نصف عائلاتها، وجرى جذب ورعاية منظمات إسلامية متشددة كي تبدو على أنها البديل الوحيد للنظام، وكي يبدو الأسد هو "صمام الأمان" الذي يحمي البلد من الانفجار والبعثرة والسقوط في يد "القاعدة". بين العفوين تحول الأسد الابن من "رجل التحديث والتطوير" (وبالمناسبة سميت مرحلة الأسد الابن في البداية بمرحلة "التحديث والإصلاح" ولكن جرى الاعتراض من داخل النظام على كلمة الإصلاح التي تتضمن برأي المعترضين اعترافاً بوجود انحرافات وأخطاء في مرحلة الأسد الأب وهذا ما لا يجوز، فاستبدلت الكلمة بكلمة التطوير)، إلى "صمام الأمان". وظيفة صمام الأمان هي منع الانفجار، وهذا يعني أن من مصلحة "صمام الأمان" أن يحافظ على الخلطة الانفجارية جاهزة وأن يرعاها حفاظاً على وظيفته.
بين العفوين إذن يتحول الرئيس من رمز للتحديث والتطوير إلى رمز للحفاظ على الوضع القائم بعناصره القابلة للانفجار، كل ذلك لغرض واحد لا يعلو عليه غرض، هو الاحتفاظ بالكرسي ولو على جثة بلد.
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة