كنت أعرفهم.. ما كانوا يعرفونني!

كنت أعرفهم.. ما كانوا يعرفونني!
القصص | 07 يونيو 2014

تدخل السياسة قسراً في معظم أحاديثنا السورية عن الحاضر والمستقبل وفي ذكرياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية. يجاهر أحد الأصدقاء (السابقين) على أنه كان يجهلني وإلّا لما سمح لصداقتنا أن تكبر إلى حدّ النّدم.

 شخصياً، فقدت الكثير من الأصدقاء خلال السنوات الثلاثة الأخيرة ومثلي غالبية أفراد المجتمع السوري، فهل حقاً كنت أجهل حقيقة أصدقائي؟ والسؤال نفسه يبقى صحيحاً بصيغته المعكوسة، هل حقاً التبست عليهم حقيقتي؟ وهل حقاً كنّا نجهل كسوريين بعضنا البعض؟

تحتاج الإجابة المقنعة على هذا السؤال إلى الخوض في نهر من المفاهيم التي لا مكان لها هنا، لكنني أختصر الإجابة بالقول إن المشكلة في السؤال نفسه، إذ يبدو أنه هو في غير موضعه السليم.

من المنطقي أن تغيّر الأحداث الكبيرة قناعاتنا نحو الأشياء، ولعل هذه هي النتيجة اليتيمة الأكثر سطوعاً في كل ما تمخّض عن الثورة السورية وتجاذباتها على المستويات كافّة، منذ أكثر من ثلاث سنوات حتى اللحظة، وقد عرّت الثورة السورية الكثير من المسلّمات التي لم تكن قبلها قابلة للنقاش وهي كثيرة وكبيرة بآن واحد، من الأمة الواحدة وقوى المقاومة والممانعة ومناهضة المشروع الامبريالي إلى ساسة العالم الحر التي تدعم حقوق الشعوب حين تنتهك الخ!.

يستهجن السوريون الموقف الدولي والصمت على مذابحهم اليومية مثلما يستنكرون الكثير من مواقف بعضهم،  إذ لم يتوقعوها أن تكون في هذا الجانب أو ذاك. لا غرابة أبداً وفق المنطق السياسي الذي تحكمه المصالح أكثر مما تؤثر فيه قيم العدالة والمساواة، فما زال الضباب يلفّ الكثير من الأحداث السورية، التي ما زالت لا تشبه لا في شكلها أو مضمونها طبيعة السوريين أنفسهم.

من كان يمكن لخياله أن يجنح إلى درجة أن يُحمل رأس السوري مذبوحاً بيد قاتله الآخر وعلى مرأى العالم كلّه؟ ومن كان يتصور أن الحضارة الضاربة في التاريخ يمكن تدميرها دكّاً بالبراميل والطائرات والدبابات والمدافع التي اقتطع السوريون ثمنها من خبز صغارهم ومن ثمن ألعابهم؟ كثيرة هي الأسئلة المماثلة حتى أن حصرها شبه مستحيل.

في مسرحية سارتر (الذباب) المستوحاة من الأسطورة اليونانية، بقي أورست بطل المسرحية متردداً إن كان عليه أن ينتقم لوالده الملك الذي قتل على يد زوجته وعشيقها الذي حلَّ ملكاً مكانه، أم أن خيار السكوت على الجريمة هو الأفضل؟ وبعد أن نهشه التردد طلب نصح الإله جوبتير الذي أشار عليه أن يستسلم للقدر. لم تعجب أورست النصيحة فقرر أن ينشد الحرية ويثأر لوالده. أصيب جوبتير بالهلع من قرار الأول اللجوء للحرية فأسرع يخبر الملك ويطلب منه تجهبز الجيش للمواجهة ومنع أورست من الوصول إلى حريته. وهنا يتساءل الملك: وهل أورست من القوة بحيث يحتاج إلى جيش؟

فتأتيه الإجابة: "إنه الآن حراً" وإذا انفجرت الحرية مرة في روح الإنسان، فلن تقيّده بعد هذا أية سلطة.

بليغة هي مقولة المسرحية وهي تقترب كثيراً بدلالاتها من حالة الشعب السوري، بعد أن تفجّرت في أعماقه الرغبة في التحرر من قيود الاستبداد بالرغم من إيمانه بأن ثمن خياره هذا سيكون باهظاً في الضحايا والدم، لكنه بات على يقين بأن ذلك أقل كلفة من بقائه تحت سطوة الاستبداد.

تمكّن النظام عبر أجهزته الأمنيّة المنفلتة لأكثر من أربعين عاماً من زرع سلوكيات دخيلة عن الطبيعة السورية العامة، فلم يعد ما يقال جهاراً هو نفسه ما يعتمل في الأعماق، ولدى أهل المنطقة الشرقية من البلاد قولاً مأثوراً (حكايا الليل مطليّة بالـزبدة) فما أن تشرق الشمس حتى يذوب الطلاء، وعليه فمن اختار البقاء إلى جانب السلطة بدافع الخوف من فتكها أو لدوافع أخرى، فموقفه ليس بالضرورة تجسيداً لقناعة، لكنه بالتأكيد يسهم في تثبيت الاستبداد بشكل أو آخر.

ما زلت أدعو أن يصاب السوريون جميعا بعدوى أورست ليس بداع التخلّص من الاستبداد وحده، بل من أجل الاستمتاع بجمالية الحياة مع خيار الحرية الواعية. ستشرق الشمس ذات صباح على السوريين، عندها يمكننا اختيار الأصدقاء عن قناعة ونقضي على التناقض الذي نعيشه في دواخلنا، ونجهر بما نفكّر وأن نعيش حياتنا كما تليق بنا. 


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق