الخراب يقاس بالخراب، لا معايير تحدّد حجمه، شموليّته وحدات قياسه، أما الأرقام والأخبار والدراسات فمجرّد نداءات استغاثة لا تروم أكثر من لفت الانتباه.
في حديثنا عن الخراب السوري نذهب إلى التجزيء، مع أن ابن خلدون يقول إن الخراب لا يأتي إلا كاملاً. كثيراً ما نقول إنه خرابٌ إنسانيَّ منقطع النّظير مستعينين بأرقام تقريبية لعدد الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين والنازحين. ونمثّل للخراب العمرانيّ بصور تحوّلت فيها مناطق مأهولة إلى ركام وأنقاض. وخراب اقتصاديّ نصرّفه بتقارير مرتجلةٍ عن شعبٍ مرميّ إلى جحيم الجوع والفاقة. وخراب نفسيّ لا نملك له تصويراً غير الاستعارات والمجازات الأدبية، رغم أن الرعب والخوف أكبر من استيعاب اللغات المنطوقة.
الخراب هو الخراب، الصور الصحافية والتلفزيونية تقول بعضه، المقالات تكتفي بإشارات، كتابات "فيس بوك" و"تويتر" تلميحات. النقصان فادح في التعبير عن مأساة السوريين إلى درجة تزيد مأساويتها.
في ذلك الاجتزاء، وهو نابع من قصور في المعلومة والمفهوم واللغة، تُستثنى الطبيعة من المشهد، رغم أنّ ما يجري لها لا يقّل في حجمه وعنفه عما يجري للإنسان. فالأشجار السورية عاشت نكبتها التي تمثّلت في تحوّل الناس إلى حطابين يقطعون ما يجدونه أمامهم بغاية الاستدفاء، في نوع من الصراع على البقاء حيال حصارين، برد الشتاء، وحصار النظام وما تبعه من ارتفاع في أسعار المحروقات أو اختفائها. بساتين بأكملها اقتُلعت. أحراشٌ عن بكرة أبيها أبيدت. أضف إلى ذلك ما فعلته البلدوزرات التي دعمت الآلة الحربية في تصفية كل بستان يمكن أن يخبئ فيه الثوار (كما حدث لصبّار المزة)، أو إحراق الغابات بالذريعة ذاتها (غابات ريف اللاذقية مثال ذلك).
الحيوانات بدورها لم تكن في منجى، بل الغريب أنه أعلن استعداءها، ولعلّ ما من أحد لم يسمع بخبر مذبحة الحمير التي قام بها الجيش النظامي، دون معرفة السبب وراء ذلك. والتي تكرّرت مراراً وثمة فيديوهات توثّق قيام جنود بإعدامات ميدانية لها.
الأبقار قتلت، في بساتين "داريا" و"السيدة زينب" و"يلدا". والتي نجت من الرصاص لم تنجُ من المرض، فمن المعروف لدى البياطرة أن البقرة تحتاج إلى أن تُحلب يومياً، والذي حدث أن كثيراً من الناس في نزوحهم وتركهم لممتلكاتهم تركوا الأبقار دون رعاية، مما عرّضها لأمراض شتى، تبدأ بالتهاب الضروع لتنتهي بنفوقها.
الكلاب أصيبت بالسعار من أكلها الجثث المتروكة للتفسّخ في كثير من الأمكنة. داء الكَلَب انتقل بدوره إلى البشر بعد انفلات الكلاب من عقالها. الخيول العربية الأصيلة نالت نصيبها. سمعنا مراراً عن أحصنة نادرة نقلت قبل العمليات العسكرية، فالأصائل عادةً تصاب بالجنون لمجرّد سماعها أصوات الرصاص، فما بالك بالقصف والدك والبراميل؟
محاصيل زراعية أحرقت بالكامل في نوع من العقاب الجماعي لأهالي المنطقة، أو أنها تركت بلا رعاية، فمن سيخرج للعمل فيها تحت سماء تمطر حمماً؟ أو من سيهتم لبيعها والحواجز العسكرية تفتش صناديق البندورة، على سبيل المثال، حبة حبة؟
البارود أفسد الهواء، كما أن حرق المعامل وانتشار سموم موادها سمم الجو. ناهيك عما فعلته الأسلحة الكيماوية بالبشر والحجر والشجر! التراب جريح وربما لن يكون صالحاً للزراعة والحياة قبل مرور أزمنة طويلة.
ما نسوقه مجرد إشارات فقط، من شأن أهل الاختصاص أن يجعلوها حقائق وأرقاماً في الغد الذي لا يعدنا إلا بمزيد من الخراب.
حرب النظام السوري على الشعب أخفت من هولها جبهةً أخرى، في الوقت ذاته، على الطبيعة السورية. النظام الذي يعرف أنه أعلن نفسه عدواً للحياة، يعرف أنه لا بدّ من جعل حرب الإبادة تطال كل شيء.
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة