بعد أن جفف النظام الأسدي بلادنا من أي احتمال لوجود بديل، ولو بعد عقود؛ فقد أمكنه جرّ الخصوم بسهولة الى الحفر.. حفرة إثر أخرى.
وبرغم مواجهة السفاح بشار الأسد لأخطر هبة جماهيرية في المنطقة، إلا أنه استطاع أن يحمي نفسه من السقوط، بمساعدة أكبر مصادفة تاريخية، مثّلت ضربة حظّ أخرى، من ذلك النوع الذي كان يتحقق لأبيه. واليوم جعلت النتائج لصالحه، حتى حين كان يحقق الثوار انتصارات مؤكدة على قواه المدججة بأثقل أسلحة الحروب، واستخدامه للمحرم منها دولياً، حتى في الحروب بين الجيوش.
كانت المصادفة التاريخية تلك سوداء على السوريين وعلى شعوب المنطقة قاطبة. وهي تتمثل في تطابق الخلفية الدينية بين الغالبية الثائرة في سوريا، وبين الجماعات الجهادية التي قادتها منظمات موصوفة بالإرهاب عالميا. الأمر الذي سهل على النظام، ذي الباع الطويل في التعامل مع المنظمات الإرهابية تلك، أن يضخها في شرايين الثورة الرئيسية، فيعطل منها العقل ويصيبها بالشلل. متحملا ًما عدا هذا من الخسارات المأخوذة في الحسبان سلفاً. بل مستفيداً من تلك الخسائر بالذات، عبر تخويف الداخل والخارج بها. وإقناع من يمكن إقناعه، بأنه فعلاً يحارب الإرهاب، ويحمي الأقليات كما يحمي المنطقة كلها- وعلى رأسها إسرائيل- من هذه الرياح السامة.
زاد في ويلات السوريين، أن ظرفهم كان من البلبلة والاضطراب، وغياب القيادة المتبصرة بهذا الخطر الجسيم، وفي ظل الموت الذي لم يكن ليتوقف لحظة واحدة؛ إلى درجة كانوا على استعداد لتقبل العون من الشيطان. وهو بالضبط ما حصل.
فلقد تولى تلك الكتائب قادة مشبوهين بالعمالة للنظام. سواءٌ منهم من تدرّب في حضنه، حين كان يسهل لهم( وربما كان يجندهم هو) للقيام بعمليات إرهابية ضد الجيش الأمريكي في العراق، ثم قام بعد تفاهمات مع أمريكا بزجهم في سجونه، ليستخدمهم عند اللزوم- كما حصل في نهر البارد بطرابلس لبنان- وحين اضطرته الثورة لطلب المزيد، تلقى من نظام الملالي، أعداداً ممن كانوا في حوزته، أو ممن كانوا لدى المملوك( المالكي)، في سجن أبو غريب بالعراق. عدا عن فصائل شيشانية اضطلعت المخابرات الروسية في تصنيعها و التحكم بها.
ولعل أكبر دليل على عمالة تلك المجموعات الإرهابية أنها حاربت خارج قيادة الثورة. بل أعلنت في مناسبات عديدة أنها ترفض الثورة، وتضعها على صف واحد مع النظام( الذي كانت تستخدم لوصفه مصطلحات عنصرية ودينية- من مثل العلماني الكافر، أو النصيري الرافضي..الخ، لتثير مخاوف الأقليات في الداخل، وردة الفعل السلبية في الخارج. مما انعكس على الثورة سلباً، وبسرعة فائقة كانت تتطلب من القادة الثوريين الحقيقيين للمعارضة أن يبادروا لعملية إنقاذيه على وجه الخطورة للوضع. ولكنهم بدلاً من ذلك، أسلسوا القياد والانقياد للصرخات الشعبية الغاضبة المتألمة، بما تحمل من لغة أبعد عن السياسة، من شتم واتهام للعالم كله بالمؤامرة والخيانة(عدّلت المعارضة خطابها- قليلاً، ومتأخرة)، بل وإعلان عداءها للعالم قاطبة- تماماً كما كان يؤمل النظام وأسياده، وربما أكثر مما كاوا يؤملون!
جاء احتلال تلك الجماعات الإرهابية لثورة شعبنا، بما تمتلكه من إمكانيات ضخمة ومتجددة من العتاد والمؤن والسلاح الحديث..، وبعد التمكن من حصار الجيش الحرّ، ودفعه بقوة التجويع والحرمان من السلاح و الذخيرة إلى طلب الانضمام إليها؛ متزامناً مع بلوغ الحرب الغربية( الأمريكية بخاصة) على الإرهاب لحظة الذروة. حيث باتت تلك المنظمات، بقيادة القاعدة( الأم)، التي كانت صناعة أمريكية بحتة؛ تشكل خطراً على أمريكا والغرب عموماً.
هكذا اكتملت أركان المصادفة التاريخية السوداء علينا. وتأمن للنظام دعماً عالميا غير مسبوق. لم تتلقه حتى إسرائيل بالذات. فعلى حين كانت هذه تتلقى مساندة وحماية الغرب، كان النظام السوري يتلقى مساعدة وحماية الشرق والغرب. وبفارق أن تلك القوى الداعمة كانت تقاتل معه على الأرض. بل وتحل محل جيشه، ليتفرغ هو للأعمال الوحيدة التي تربى عليها في لبنان وحماة.. مما لم تبلغه جيوش بهيمية وقطعان وحشية في العالم.. من أعمال النهب والسلب والتفتيش في مناطق الردم نفسها عما يمكن حمله أو شحطه، أو يصلح للالتقاط والاقتناء أو البيع في أسواق الخردة، التي أطلقوا عليها اسم "أسواق السنة"- وهي تسمية مصممة سلفاً لاستعداء الطوائف، أملاً في تحويل الثورة الى صراع طائفي يعيد تدوير الدائرة من جديد.. لخنق كل مخرج أمام قوى التغيير، على أرضية مبادئ الثورة وأهدافها. بينما سجل الجيش الإسرائيلي موقفاً يشرف جميع كوادره، بل وشعبه بالتزام توجيهات قادته بمنع إدخال أي مملكات غير الممتلكات الفردية.
لقد كان النظام السوري وعلى مدى تاريخه الأسدي، متفرداً عن أي نظام في العالم، بأنه كان ينتقي القبائح من الغرب والشرق، ويدمر الفضائل ويحطم الطاقات، مبدعاً نموذجاً فريداً لدولة أعجز عن النهوض. وأضعف من إنتاج البديل!
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة