أين الثورة اليوم؟

أين الثورة اليوم؟
القصص | 12 مايو 2014

وسط الحائط المسدود الذي يقف عنده اليوم النظام والمعارضة والجميع، ثمة أسئلة كثيرة تطرح على السوريين ويطرحها السوريون على أنفسهم. أسئلة فيها من اليأس والقنوط الكثير، وفيها من العجز الأكثر. ولكن أكثرها إيلاماً و"شماتةً" ربما هو ذاك المتسائل والمشكك، ولكنه المشروع أيضا: أين هي الثورة اليوم وسط هذا الإرهاب السلطوي والنصرواي والإسلاموي الذي تغرق فيه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام مقابل "الأمان" الذي تحيا به المناطق الخاضعة لسيطرة النظام؟ ووسط ارتهان كل ما في الداخل السوري للقوى الإقليمية والدولية إلى درجة يكاد فيها لا أثر لأي صوت سوري سواء للنظام أو للمعارضة؟

السؤال مشروع بلا شك بغض النظر عن نوايا سائليه، إذ أين خطاب الثورة؟ وأين أهدافها؟ وأين وجهها الجميل الذي رأيناه في الأشهر الأولى في صوت فدوى سليمان ووجه غياث مطر ووعي يحيى الشربجي من وجوه الجولاني والعدناني وعلوش والجربا ووو.. الذين لم يعد أحدٌ يفهم انتصاراتهم من هزائمهم؟ بل أين أهداف الثورة في الحرية والديمقراطية والدولة المدنية وهي شعارات الانتفاضة الأولى، من شعارات وأهداف اليوم التي تطرحها الكتائب المقاتلة، تارةً تحت مسمّى الدولة الإسلامية الحضارية و تارة تحت خطاب دولة مدنية ذات بعد إسلامي، ممهورة بشعار "محمد رسول الله قائدنا للأبد" وسط صمت وتواطؤ الكثيرين على هذه الشعارات! ناهيك عن مخاوف التقسيم والفدرلة التي تشاع في الأجواء.

تعيش سوريا اليوم النتائج النهائية لعسكرة لم تتمكن من الانتصار، كما عاشت في مرحلة سابقة نهاية مرحلة سلمية لم تتمكن هي الأخرى من الانتصار، مع فارق أنه في الأولى كان القرار لا يزال في يد السوريين في حين أنه اليوم في يد كل شيء إلاهم، لنكون أمام نتائج عسكرة لم تحقق شيء يذكر سوى الدمار المطلق، سواء كان الذهاب لها بفعل أجندة النظام وعنفه أم أجندة الخارج وألاعيبه أم جهل القوى الثائرة ووهمها بالخلاص القريب. والأغلب أنه نتاج الثلاثة وفي تداخل معقد ومربك، إذ لم يعد مهماً اليوم لما حصل ذلك؟ بل المهم إدراك أن النتائج كارثية، ومنظر حمص وحلب اليوم وحده يكفي.

ولكن يبقى السؤال المؤرق الآخر: هل كان ثمة خيار آخر؟ وهل ثمة تغيير بلا أثمان؟ لنقابل بأسئلة مضادة: هل يستحق الأمر كل هذا الثمن؟.

السياسة تقاس بالنتائج النهائية لا بالأحلام. وعليه فإن النتيجة حتى اليوم سلبية، خاصةً حين ندرك أننا لم نحصد سوى الخراب والتدمير مقابل عدم تحقيق أي شيء من شعارات الانتفاضة سواءً "تغيير النظام" وفق ما يريد قطب من المعارضة أو "إسقاطه" الآن وفوراً وفق ما يريد قطب آخر، بل اختفت هذه الأهداف اليوم لصالح أجندة سبق ذكرها.

بالعودة إلى السؤال الأول: أين الثورة اليوم؟ وهل ثمة ثورة أو خطاب ثوري له علاقة بأحلام الثورة الأولى؟

في مدينة درعا التي لا يقدم لنا الإعلام مما يجري فيها اليوم إلا أصوات المعارك الدائرة هناك، ثمة حياة وعائلات وأطفال يقاومون بصمت. والأهم أن ثمة ناشطون مدنيون لازالوا ينشطون هناك رغم القذائف والدمار الذي يحاصرهم لأجل رسم البسمة على طفل وسط هذا الحصار.

 رغم أهمية هذا، ليس هو الأهم هنا، وليس هو التفصيل الذي أدعوكم للتدقيق به، بل في انتباه هؤلاء الناشطين وهم تحت القصف والدمار والموت، والذين يعملون تحت اسم تجمع "غصن زيتون" إلى أن الأشجار في المنطقة تتناقص يوما بعد يوم، ووسط عجزهم عن القيام بأي شيء لمنع هذا، قاموا بزراعة "غراس المستقبل" لنكون أمام أمل وإرادة متطلعين للمستقبل، بناء يُزرع وسط هذا الخراب لينمو لاحقاً.

في فيلم "بدوما عايشين ويا سلام" الذي أنتجه مجموعة من الناشطين المجهولين حتى اليوم في دوما المحاصرة، ثمة طفل يعمل بتصليح الدراجات، يتحدث عن قصف النظام لمدرسته ويشرح أن النظام فعل ذلك، لأن المدرسة مكان علم ومعرفة تعّرف الناس معنى الاستبداد وتنورهم لضرورة محاربته، ولأن النظام لا يريد لأحد أن يعرف عنه شيء، إذ يعمل على إبقاء الناس جاهلة بأفعاله وبالتالي تبرير استبداده، قام بقصف المدرسة ( كما يقول الطفل)، لنكون أمام مدرسة جديدة لهذا الطفل الذي بلا مدرسة، تقوم على الضد من مدرسة الاستبداد التي لم تكن تعلّم إلا "الأسد إلى الأبد".

التفصيلين السابقين على هامشيتهما، يمثلان بقايا الثورة التي لم تزل تقاوم بوجه خرابي السلاح والاستبداد معاً، إذ تعاونا ( مرة أخرى بغض النظر عن نوايا حاملي السلاح) لإقصاء صوت الثورة، ممهدين الأرضية اللازمة لتقدّم ما سبق، إذ لم يتمكن أنصار السلاح في الثورة من الحفاظ على الهدف الذي حملوا لأجله السلاح، سواءً في حماية المظاهرات كما قالوا أولا، أو إسقاط النظام عسكريا كما قالوا لاحقاً، فكانوا طرفاً إلى جانب النظام في إقصاء الصوت الثوري الحقيقي الذي لم يبقى منه إلا تفاصيل موّزعة بين شتات هذا العنف، لتدل على أن ثمة ثورة مرت من هنا.

ولكن هل هذا يعني انتهاء كل شيء؟

أبداً، لأن الثورات تنتصر حين تتغير العقليات وآليات النظر للنظام والبلد، إذ لا يمثل التفصيلين السابقين إلا إرادة الشعب (أو ما بقي منه) التي تنتظر توّقف العنف لتتقدم بوعي جديد، قد يكون هو نتاج الثورة الوحيد والأهم. ثمة قطع واضح هنا مع الاستبداد وثقافته التي لم يعد بالإمكان تسويقها بأي شكل من الأشكال.

وعي جديد لن يكون طريقه إلى المستقبل سهلاً كما يتوّهم الكثيرون، بل وعراً وشائكاً ومتعرجاً، لأننا أمام حدث تاريخي مفصلي يحدث كل قرن مرة واحدة، لذا هو إيذان ببدء مرحلة انتقالية قد تبقى ربع قرن على الأقل حتى تستقر سياسياً، وهو أمر لا علاقة له بالمراحل الانتقالية التي يتم الحديث عنها بعد توقيع اتفاق سياسي ما إن تم، بل مرحلة على مستوى الوعي والعقليات والإيديولوجيات والإقليم كله، إذ ثمة ما يموت اليوم ليولد جديد: أصوليات سلطوية ودينية وطائفية تتصارع لتسقط معاً، مقابل وعي جديد لم يتبلّور بعد، ولا يزال يحفر وحيداً وسط هذا الخراب، إلا أنه حي ويتقدم ببطء ولكن بثبات أيضا.


مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي  روزنة 

 


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق