في مقاربة الاستنجاد بالخارج لإطاحة الاستبداد، دائما ما يلقى اللوم على المعارضة دون تفحص دور الاستبداد الذي يسعى لاحتكار السيادة والوطنية لفظيا لتوظيفهما ضد خصومه، في حين لايفعل إلا تدمير هذه الوطنية فعليا ودفع معارضيه دفعا في كثير من الأحيان نحو الاستنجاد بالخارج، دون أن يعني الأمر أيضا التغطية على عجز المعارضة المزمن وعدم قدرتها على اجتراح وسائل نضال وطنية تبني تراكما في الداخل يتيح إطاحة الاستبداد وطنيا، لمنع الخارج والاستبداد معا من توظيف الأمر أداة لقمع المطالب الوطنية المحقة، ولكن هل يمكن ذلك حقا؟
لايمكن مقاربة الأمر دون قراءة إيديولوجية الاستبداد وشدته بين بلد وآخر، وقراءة ذلك على ضوء التجارب التاريخية، عبر تشابكه مع دور المعارضة الوطنية في كل بلد.
تقول التجربة التاريخية أننا إزاء بلدان لم تتمكن من إطاحة الاستبداد دون تدخل عسكري خارجي مثل العراق وليبيا في حين كان للدور الخارجي دور أساسي في إقرار الصيغة اليمنية، مقابل تمكّن تونس ومصر من تحقيق ما بات يعرف بـ"الاستقلال الثاني" بجهود وطنية داخلية لا تخلو من مؤثرات خارجية بطبيعة الحال.
إن الفوارق بين هذه التجارب تكمن بالدرجة الأولى بطبيعة المستبد المختلفة في كل بلد، من ناحية أمرين اثنين: أولهما: شدة العنف المستخدمة ضد الداخل (شعبا ومعارضة)، حيث كانت في البلدان التي استدعت تدخلا خارجيا للإطاحة بالاستبداد، مطلقة وتصل حدود التوحش والإجرام والنازية وقتل كل الاحتمالات الوطنية بما لا يترك للمعارضة أي مساحة عمل في الداخل، في حين كانت أقل شدة ووحشية في البلدان التي لم تستدعي تدخلا خارجيا.
و ثانيهما: اعتماد الاستبداد على التمدد في الخارج لكسب "أوراق لعب" يتم المقايضة بها حين تتهدد السلطة في الداخل، بما يسبب ذلك من تراكم عداوات إقليمية ضد السلطة المستبدة، سيعمل أصحابها على شحذ سكاكينهم ضدها حين تضعف أو تحصل ثورة ضدها، وهو ما حصل في سوريا و ليبيا والعراق، لنكون أمام بنية مستبدة تستدعي الخارج أساسا عبر بنتيها القائمة عليه حتى قبل أن تفكر المعارضة بذلك، عدا عن كون "الخارج" نفسه هو من يحمي السلطة المستبدة بتوفير مظلات دبلوماسية لها في المحافل الدولية، إضافة إلى تحوّل "الاستعانة بالخارج" إلى تهمة تلقى بوجه المعارضة لنزع الصفة الوطنية عنها، وهو ما نراه عمليا فيما يحتله لفظ "معارضة الخارج" من تحقير في الذهنية العامة للشعب والسلطة معا.
ولكن الاعتماد على الخارج والتمدد خارجيا لحماية السلطة ليس متعلّقا بالسلطة فقط، بل هو متعلق أولا وأساسا بقضايا وإيديولوجيات عابرة للحدود قامت عليها السلطة، لها امتداد شعبي عريض في الداخل، مما منحها شرعية استخدام الخارج واللعب فيه برضى شعبي، بدءا من فلسطين وليس انتهاء بالوحدة العربية، دون أن يكون العطب فيها (الإيديولوجيات و القضايا) بالضرورة بل في تحوّلهما إلى سلع وأدوات تخدم المستبد لا أكثر ولا أقل.
وهنا تتشارك المعارضة مع السلطة في البلدان التي استدعت التدخل الخارجي لإطاحة الاستبداد في كونهما أبناء إيديولوجية واحدة، أي أن المعارضة كانت عمليا تعطي السلطة شرعيتها في استخدام الخارج أداة لضبط الداخل وتحرم نفسها من استخدام هذا الخارج سياسيا على الأقل، واقعة في أسر السلطة التي لم تكف عن اتهام المعارضة بالسعي لاستجلاب الخارج بملء إرادتها في قصر نظر واضح لهذه المعارضات، وهو ما نتبيّنه من وقوف المعارضة السورية تاريخيا خلف السلطة في مواضيع فلسطين والوحدة العربية و"الموقف من الإمبريالية" (أغلب أحزاب المعارضة السورية تنتمي لهذا النوع) إلى درجة أن الإخوان المسلمين أوقفوا معارضتهم للنظام عام 2008 على خلفية موقف النظام السوري من غزة، وهذا أحد الأسباب الذي لم يتح عمليا للمعارضات الداخلية مراكمة عمل دؤوب يطيح الاستبداد داخليا بأقل تكاليف الاستعانة بالخارج كما حصل في مصر وتونس مثلا، حيث للبورقيبية والساداتية دور كبير في تطوير وعي نحو الوطنية الداخلية بعيدا عن رطانة الإيديولوجيا الوحدوية، وهو ما نزع ورقة الخارج جزئيا وليس كليا من يد السلطة التي اضطرت إذ ذاك لتخفيف قمعها في الداخل لتحافظ على سلطتها، موازنة بين قمع مخفّف ولعب على قضايا الخارج حين تحتاج سلطة الداخل تلك، كما حصل مع بورقيبة حين وافق على الوحدة مع ليبيا (12 كانون الثاني/ يناير 1973) ليتراجع عن الأمر بعد أيام!
هذا الهامش منح القوى الوطنية المعارضة في هذه البلدان حرية العمل النسبي المعارض على نحو ما رأينا في تجربة "كفاية" وغيرها في مصر، والتي وسّعت هامش الرقعة المدنية داخليا، فهيئت الأرضية لنجاح الثورة في الداخل ومن الداخل وهو ما لم يتوفر في العراق وليبيا وسوريا التي تستجلب سلطاتها الخارج قبل أن تستعين به المعارضات حين يكون الخارج أداة للحكم وتهمة للمعارضة، وحين يكون القمع مانعا أمام نمو وعي وطني، فيوّلد وعيا معارضا هشا يستدعي الخارج كيفما اتفق لمجرد "إسقاط النظام"، فينجح حينا في إسقاطه لصالح الخارج فحسب، متخليا عن "الاستقلال الأول" المتمحور حول السيادة كما حصل في ليبيا والعراق، و يحقق حينا مصلحة السلطة، حين يثبّت التهمة عليه، وهو ما تستغله السلطة لدى قطاعات شعبية لضرب شعبية المعارضة على أنها "معارضة خارج" فتفشل كما يحصل في سوريا حتى الآن.
---------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة