عاملان رئيسيان ساهما في احتجاب الأصوات الطائفية في سوريا خلال العقد الأسدي، والاحتجاب هنا يعني الزوال المرحلي إلى حين بروز عوامل تساعد على إعادة الظهور. فالبعث لم يساهم في حل المعضلة الطائفية في البلاد بقدر ما سعى لإعادة انتاجها بما يلائم بقاؤه في السلطة. وإذا كان العامل الأول يرتبط بطبيعة النظام السياسي الديكتاتوري الذي منع بالقوة بروز أي نزعة طائفية في المجتمع السوري، فإن العامل الثاني يتصل بصعود الإيديولوجيات اليسارية والقومية في ثمانينات القرن الماضي ما شكل غطاء معرفياً زائفاً ساعد على كتم الأنفاس الطائفية.
وظيفة النظام الأمني المستبد تمثلت في هذا السياق بضبط أي انفجار طائفي على الصعيد الشعبي-المجتمعي، في حين ارتفعت الهويات الحزبية الزائفة عند المثقفين لتطمر الانتماءات الطائفية مؤقتاً. وإن كان من الطبيعي أن تفجر الثورة السورية نزعات طائفية على مستوى المجتمع بفعل العنف الذي توسله النظام فإنه من الطبيعي أيضاً أن تسقط هذه الثورة آخر أوراق الإيديولوجيات التي انهارت تباعاً عند بعض المثقفين السوريين.
وقد لا يكون من الضروري أن يبني المثقف تصوراته السياسية على أساس طائفي كي يبدو كذلك. يكفي أن يصرّ على استخدام أفكاره اليسارية والقومية والحداثية السابقة ولكن بوظائف دلالية مختلفة هذه المرة، كأن يأخذ الشاعر أدونيس على ثورة سوريا خروجها من الجوامع وليس من الجامعات. هذا المأخذ يبدو في ظاهره امتداداً للأفكار الأدونيسية التحررية لكنه في باطنه ينطوي على نزعة معادية للثورة التي كان من المرجح أن تطيح النظام الفئوي الأقلوي الذي يتشارك معه ادونيس بالمنبت الأهلي. لم يكن غريباً أن يمثل أدونيس سياقاً ثقافياً أقلوياً يتلطّى وراء شعارات الحداثة والديمقراطية والعلمانية ليخفي نزوعه الطائفي.
فحين يتمظهر الصراع بشكل واضح بوصفه أقلية تفتك بالأكثرية يصاب المثقف الأقلوي بالحرج، لتصبح إيديولوجيا الحداثة وسلية لتحوير هذا الصراع وجعله بين الأصولية والحداثة. فتغدو الأخيرة معادلاً للأقلوية تعبر عن هواجسها الضدية متجنبةً أي اتهامات بالطائفية.
هكذا يجد المثقف الأقلوي نفسه مرتاحاً بالافصاح عن طائفيته بخطاب حداثي لا يمل من المطالبة بالديمقراطية والحرية والدولة المدنية. على النقيض من المثقف الأكثري الذي لم يعد يجد حرجاً بالتدليل على انتمائه. سيما وأنه يقيم في الموقع العكسي من المثقف الأقلوي، بحيث أن البعد الأهلي الذي يحمله في هويته يتعرض للتنكيل والقمع اليومي.
بهذا المعنى ينعدم الفرق بين المثقف الذي يقول أن طائفته تُقتل وذلك الذي يطالب بالحداثة والديمقراطية. قولان يتفارقان في الوجهة المعرفية و يلتقيان بقوة في التعبير عن النزوع الأهلي والطائفي. والمفارقة الظالمة تتمثل بتحميل المثقف الأكثري المسؤولية عن بروز الخطاب الطائفي وتعميمه ثقافياً على اعتبار أنه واضح وصريح. ليتخذ المثقف الأقلوي في المقابل موقع الرافض لكل تحليل طائفي مستكملاً بذلك سياق استخدام إيديولوجيا الحداثة السياسية لإخفاء طائفيته.
خطورة الخطابين السابقين، المعلن منهما والمضمر يجب أن تضعنا على السكة الصحيحة لفهم المسألة الطائفية في سوريا وتأثيرها على المستوى الشعبي وكذلك على النخبة الثقافية ، فكما أن المرء لا يولد علمانياً فهو أيضاً لا يولد طائفياً ثمة صيرورة تدفعه لأن يكون كذلك. وبدل تحويل الطائفية إلى مكارثية سورية تتهم الآخر وتخونه عند كل محاولة لتوصيف الواقع الراهن ، لابد من فهم مسبباتها وبدء البحث في علاجها.
وفي هذا السياق يبدو المثقف الأكثري الذي يتبنى خطابا طائفياً ، أقل خطورة من المثقف الأقلوي الذي يتبنى ذات الخطاب ولكن بطرق التفافية ، إذ أن الأول مريضٌ يمكن علاج أسباب مرضه، فيما الثاني لم يدرك مرضه بعد.
----------------------------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة