تفاصيل غير مهمّة أبداً .. في حياة الشهيد مصطفى قرمان

تفاصيل غير مهمّة أبداً .. في حياة الشهيد مصطفى قرمان
القصص | 17 نوفمبر 2013

يوم الاثنين .. عطلة "الحلاقين": (صحيح أنّنا تزوّجنا في غرفة صغيرة، وصحيح أننا اكتفينا بسهرة للأصدقاء المقرّبين لإعلان زواجنا دون وجود أهالينا، ودون الطقوس العرائسيّة المتعارفة، بل وعلى أنغام القذائف التي لم تتوقّف مدفعيّاتك القريبة عن إطلاقها في تلك الليلة، إلا أنّها كانت "أحلى سهرة"، وسنكمل حتّى النهاية، "لنشوف رح تنقلع ولا لأ" ..!؟) على كلّ لم يخل الأمر من العقبات أثناء التحضير لـ"أحلى سهرة"، منها مثلاً أنّها صادفت أن تكون في يوم "الاثنين"، ولسبب غير معروف فقد اختار "الحلّاقون" منذ زمن بعيد هذا اليوم ليكون عطلتهم الأسبوعيّة، يتنبّه عريسنا "مصطفى قرمان" لهذه الحقيقة قبل بداية سهرة زواجه بساعتين، يتّصل بي ليخبرني بخيبة أنّ نظرة خاطفة على المرآة جعلته يكتشف أنّه لم يحلق شعره منذ زمن طويل، وأنّه بهذه الهيئة لا يشبه أبداً عريساً في يوم زفافه. لم يكن حال عروسته "مها غرير" أفضل بكثير، استيقظت باكراً لتواجهها عقبات كثيرة فيما يخصّ فستانها التي جهّزته، و"المكياج"، وبعض التفاصيل المتعلّقة بالحفل، وتداركها الوقت وزاد توتّرها، ولم يكن ينقصها سوى أن تكتشف أيضاً المصيبة الأكبر: "ألو، باسل، الكوافير يلي جنب بيتك بيفتح يوم الاثنين شي!؟". في السهرة، لم يصدف أن رأيت في حياتي عريساً أجمل منه، أو عروساً أجمل منها، ولا أظنّ طبعاً أنّ الفضل يعود للـ"حلّاق" أو "الكوافير" الذي يكسر القاعدة، ويعمل في يوم الاثنين. بستان القصر: (أمضيت في حيّ بستان القصر 22 عاماً من عمري، اليوم وخلال جولة مسائيّة فيه بعد أن سيطر عليه الثوّار، شاهدت ما لم أشاهده خلال ثلاثين عاماً أمضيتها في هذه الحياة، تجمّعات أهليّة من الشباب تدير الحي بكلّ جوانبه، تنظيم ومساواة في الطوابير أمام "أفران الخبز" بشكل لا تصدّقه العين، نظافة تقارن بشوارع باريس، منشورات تدعو الأهالي للوحدة والتعاون والمحبّة من أجل الاستغناء عن خدمات نظام الأسد وإثبات أنّنا أفضل دونه ... مشهد لن أنساه ما حييت). لم تكن النزهة مع "مصطفى" في شوارع هذا الحي مسليّة بالنسبة لي، فهو يحفظ أزقّته ويدلّك على الطرقات المختصرة، يتكرّر أن يلقي العابرون عليه السلام ويوقفونه للتحدّث معه، يعرف أين تُباع أطيب "شاورما" ومتى يغلق محلّ "الفلافل"، ويقودنا نحو "سوق الخضار" لنشتري حاجيّات المنزل، لا يترك مجالاً بالنسبة لشخص مثلي -لم يسبق أن زار هذا الجزء من حلب قبل الثورة- أن يستمتع بقلق الحالة الثوريّة، أن يتوه في أزقّة مجهولة ويبادر ليتعرّف على أناس جدد تدلّه على السبيل، ويجوع فيجرّب "سندويشاً" حيث يصادف، ويتجادل ويختلف على الأسعار مع بائعي الخضار في السوق. كنت أغنّي بأعلى صوتي "يالله إرحل يا بشّار" بمجرّد دخولي للحي منتقلاً من مناطق النظام، كان يكتفي والعابرين بالضحك على المشهد، كنت أبتسم حينما أمسح حذائي بـ"صورة بشّار" التي كانت موضوعة أمام أحد أبواب "أمن الثورة" لهذا الغرض، بينما كان يمسح حذاءه بلا مبالاه على الصورة وكأنه اعتاد ذلك منذ طفولته، كنت أتتبّع بدهشة الكتابات الثوريّة على الجدران بينما لم يكن يظهر كثيراً من الدهشة، كنت أتلمّس أعلام الاستقلال حيث أجدها، بينما كان يعبر بجانبها بدون مبالاة كبيرة، تشعر معه أنّه "ابن الحيّ" حتّى وإن كان قد هجره منذ سنوات طويلة، هذا حيّي، أشاهد فيه ما لم أشاهده يوماً، لكنّه حرّ هو مذ كنت طفلاً ألعب فيه، فلا شيء يثير الدهشة، أو .. ربّما كان بينما نمدّ أعلام الثورة في ساحة التظاهر مثلاً، يستذكر أنّه مدّ حجارة في ذات الزقاق وذات المكان قبل عشرين عاماً، ليصنع "مرمى" وهو يلعب الكرة مع أبناء الحي. في إحدى الليالي، تأخرنا خارج المنزل الذي اتخذناه في "بستان القصر"، وبينما نهمّ للعودة من الطريق الذي أتينا منه، أخبرنا أنّ زقاقاً هناك يختصر علينا الكثير من المسافات إن عبرناه، لم نجادله لأنّ أحداً لا يمكن أن يعرف تفاصيل الحيّ أكثر منه طبعاً، وبينما نتّجه نحو الزقاق صاح بنا رجل: هوب، هوب، وين رايحين!؟ .. هذا الطريق يطلّ عليه القنّاص .. على الحاجز: (كان مؤلماً أن أسمعهم بأذني، عساكر مجنّدين في منطقة الإنشاءات العسكريّة يدعون بالحرف: يا رب بتعرف بحالنا .. إرحمنا يا رب). لا أظنّ أن أحداً في الجزء التابع للنظام في مدينة حلب كان يتجوّل بسيارته في هذه الساعة المتأخرة، يتأهّب عساكر الحواجز ليلاً، وتميل فوّهة بندقياتهم على أكتافهم نحو الأمام وكأنّها مستعدّة للإطلاق في أيّ لحظة، وتغرق المدينة في ظلام دامس وتضجّ بأصوات القذائف. تذكرة العبور .. الهويّات وتفتيش للسيارة، أو المبالغة في تمثيل أنّك "ثمل"، تمرّ في الحالة الثانية دون أن يشاهدوا هويّتك حتّى، وقد يطلبون منك أن تحضر لهم مشروباً في عبورك القادم، لكنّك بالمجمل، أصبحت "منن وفيهن"، يمكن أن تجيب على أسئلتهم بطريقة ساخرة دون أن يظهروا تجاهك أيّ عدائية، سيقهقون معك إن أجبتهم: (عائد للتو من مظاهرة)، (سأريك هويّتي مع أنّي أكرهكم)، (لا تفتّش الباكاج جيّداً فقد تنفجر القنبلة إن وضعت يدك عليها) .. سيفهمون من ذلك، سخرية على "العراعرة" لا عليهم. كنت أمارس عادتي هذه وأبالغ بالسخرية والأخذ والرد مع أحد الحواجز في الساعة الثانية فجرأ، ينكزني "مصطفى" من المقعد الخلفي لمرّات ومرّات، فأبالغ أكثر لأثبت له نظريّتي، وعلى عكس ما توقعت، لم يرق للعسكريّ ذلك وطلب "الهويّات" من كلّ من في السيارة وقال أنّه ذاهب لـ"تفييشها" .. وحينما ذهب .. ذكّرني مصطفى أنّه "فار من الخدمة العسكريّة"، وبأنّ العسكريّ إن فيّش الهويّات حقاً، فإنّه سيقبض في لحظتها عليه ويسلّمه للجيش. نجونا يومها .. الغالب أنّ العسكريّ قد نادى ونادي على "القبضة" ليفيّش "الهويّات" .. إلا أنّ الطرف الثاني لم يجب .. تعرف الآلهة حال مصطفى .. ورحمته في حينها .. سني .. شيعي: (في مظاهرة اليوم في حيّ الإذاعة .. بدأ أحدهم هتافاً يبدأ بـ"يا سنّي .." .. فهاج المتظاهرون وأسكتوه وهتفوا ردأ: واحد واحد واحد .. الشعب السوري واحد). في اليوم الذي استشهد فيه "مصطفى قرمان" قبل عام (16-11-2012) بقذيفة على مظاهرة في حي "بستان القصر"، انتشرت الأخبار يومها في كلّ مكان: استشهاد ناشط شيعي في حي بستان القصر .. كتبت يومها تنبيها لاقى رواجاً كبيراً ودفع بعض وسائل الإعلام الثوريّة على الاعتذار من نقل الخبر بتلك الصياغة .. قلت فيه: "أرجوكم .. لا تسمّوا "مصطفى كرمان" شهيداً "شيعياً" .. في إحدى مظاهرات بستان القصر -منذ زمن قريب- خرج قائد إحدى كتائب "الجيش الحر" ليخطب بالمتظاهرين مبرّراً اختطافه لإحدى الفتيات "الشيعيّات" بحجّة مبادلتها مع أسرى من الجيش الحر .. مع أنّها -على حدّ قول القائد- لم ترتكب جرماً أبدا .. ولم يتعرّض لها أحد سوى أنّها في زنزانتها "معزّزة مكرّمة" لحين إتمام إجراءات تبادل الأسرى.. صعد الدم إلى رأسي بعد هذا الخطاب .. ونكزت "مصطفى" من جانبي وألحّيت عليه أن يخرج "على المايك" ليبرز هويّته الشيعيّة ويخاطب قائد الكتيبة محتجاً .. فنظر إليّ بابتسامة هادئة وقال : اخرج أنت وتكلّم .. أنا لست شيعياً .. أنا سوري .. ولن أسمح بالمتاجرة بانتمائي الطائفي مهما حييت". أعرف أنّي نقلت وصيّة الشهيد كما هي يومها .. لكن وحتّى اليوم .. تتكرّر المشاهد التي تجعل الدم يصعد إلى رأسي .. وأتمنّى .. لو أنّ "مصطفى" خرج على "المايك" وتحدّث ..! العبارات في الأقواس هي للشهيد "مصطفى قرمان" مع كثير من التصرّف والاختصار --------------------------------------------- مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق