فوتوغراف!!

فوتوغراف!!
القصص | 04 نوفمبر 2013

المكان بارد جداً ومنعزل، وحدها الموسيقى مدفأتي تختلط بالذاكرة وتتقد جمراً،  صوت صديقي الفوتوغرافر، حوار عبر سكايب نصفه مكتوب ونصفه انقطاعات ومحاولات للدخول وأرق تسببه التقانة في بلد يحاصره الظلام  وانقطاع التيار الكهربائي  وضعف التغطية ...  
مابين لحظة دخول وأخرى ..  تبدأ التفاصيل لصديق  في الحرب يكتسي لونه اليومي، رمادياً غائماً متشبثاً ببكسلاته التي تصنع ذاكرة الآخرين، الذاكرة التي يكون هو  بطلها غير الموجود في الكادر،  تصبح الحيوات حياة واحدة لشخص لاينتمي لأي منها، بل ينتمي للكل فيها للكل السوري، و يصبح المنجز محض لقطة يقال بأنها تبقى للأبد، و قد ينسسى العالم أن عيناً رصدتها ارتجفت أو دمعت أو ابتسمت .. وقد ينسى أيضاً أن اللقطة هي واقع رصد في مقابل الكثير مما لم يرصد.
يروي صديقي مصور الفوتوغراف عن أشياء لم يحالفه الحظ في التقاطها، تلمع عيناه كضوء الفلاش، تلك ضالته الأجمل والأكثر نقشاً في ذاكرة الألم البشري،  لايعرف  أنواع العدسات وحساسياتها، ولاتهمه ماركة الكاميرا، فما الفائدة إن كانت  " كانون " أو "نكون"،   طالما أنها ترصد حرباً وما الفائدة من دقة العدسة إن كان ثمة من لا يرى،  وما الفائدة إن اعترف العالم له بحقوق الصورة طالما أن خلف الكادر كادر آخر سوري الجرح مجهول الملامح عن مستقبل بلاد بكاملها،  يقيس المدى بقلبه وعينه فقط،  يقيس الخراب بإيماءة الكترونية تروي لي،  و أنا البعيدة، عن ألم متجذر ما عاد يدفع للبكاء، بل ويحتفي بانتصاراته الصغيرة على الموت،  انتصاراته التي تتجلى بلقطة  يظنها البعض فناً من الفنون البصرية  أو دليلاً آخر على الشقاء،  يغيب قليلاً  وتنطفئ دائرة خضراء قرب اسمه،  الدائرة تعني لي وطناً ومتاهات الرحلة.
أفكر في إحدى اللقطات،  وما ينفع الصمت إن كانت الصورة حافية تدق بعريها القلب وما ينفع أن يتسلل الحزن لقلبي فيما أفكر أن اللقطة حياة،  وأن الصورة بكسلات ترصدنا وتضعنا أمام العالم الذي يسمونه حراً ... " وقفت بوجه جلادي يتيماً عارياً حافي " أتذكر اللحن وأنصت للعدم .. !!
لقطة أخرى هي ابتسامة لطفلة،  وأخرى لدمار الريف الدمشقي، واحدة لتلال في الساحل السوري، يقودني ألبوم الصور من النقيض إلى النقيض، وأتذكر معاناة الشاب مرة أخرى لدخول سكايب،  صوته المتقطع والصورة المتكسرة و ...
تضيء الدائرة مجدداً لقد نسي الشاب أن يرسل لي ضحكة تتآمر على الوقت وتحيل التفاصيل إلى رسائل الكترونية في علبتي بريدينا،  "لا شيء هنا يثير القلق" يكتب هذه الجملة أسفل الضحكة ويستدرك : إلى اللقاء لقد آن أوان انقطاع التيار الكهربائي .
أقلب اللقطات،   أقرر أن أمسح  المحادثة ... لا أثر لشيء لاأثر للقهر والدمار، لا أثر للطفلة، والحرب ليست في علبة البريد وكذلك ضحكة مصور الفوتوغراف!

---------------------------------

مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لنمنحك أفضل تجربة مستخدم ممكنة. موافق