نقل عن أبي حيان التوحيدي بأنه كان يغشى التراب، ويحثوه، ويتخبط كالذبيحة، حين يسمع الغناء الذي يطربه. ومما نقل عنه، قوله: "من سمع الغناء على حقيقته مات"!
قد يعزو البعض ذلك- إن صح- إلى سوداوية الفيلسوف الأديب اللوذعي، ذي النشأة القاسية المعذَّبة. وقد يعزوه بعضٌ آخر إلى الظلم الذي حاق به، على مدى عقود عمره المديد، حتى دفعه رفضه لأهل زمانه أن حرق كتبه، بنفسه!
وعلى أية حال، فلا يمكن فصل شغف أديبنا بالغناء عمّا وصلته الحضارة العربية الإسلامية من رفاه وثراء وازدهار.. جعل من قصور بغداد، آنئذ، درة العالم في فنون الغناء والموسيقى.. على خلفية ثراء الدولة( الطبقة السائدة)، الذي انعكس لهواً وقصفاً ومتعاً حسيّة، بلغت بالشهوات ذروة قلما بلغتها حضارة من قبل.
ولكن لماذا كان يمكن بلوغ السامع للغناء هذا المبلغ، الذي يصعب علينا اليوم تفهّمه؟
أعتقد أن السبب الرئيس يعود إلى ما كان يشرط سماع المغني من شروط، لم تكن حيازتها متيسرة إلا لخاصة الخاصة. وأعني شرط المُلْكيّة، وهو الشرط الأهم في حينها، الذي يضمن لصاحبه توفر المغني بين يديه، متى شاء. يتلوه الشرط الثاني، وهو ليس أقل صعوبة على الحوز، و أعني شرط مزاج المغني نفسه. وهو شرط قد لا تكفي حيازة المغني لتوفيره. لأنه- كأية عاطفة- لا يمكن توفيرها تلقائياً، كما لا يمكن اصطناعها أو فرضها. وهذا ما يجعل صاحب العاطفة يأخذ دور الحاكم المطلق. ويفسر خضوع الملوك، في حكايات طريفة، للجواري والغانيات.
ولإن أمكن توفر أياً من ذينك الشرطين الأساسيين، للملوك، ومن ثم الذين يؤثرهم الخليفة برعايته الخاصة، من الطبقة المالكة؛ إلا أن أياً منهما- فكيف بكليهما- يكون بمثابة ليلة القدر لعامة الناس.
وهنا يمكننا تخيل حال عاشق وأديب وفيلسوف، من وزن أبي حيان التوحيدي؛ حين تضعه المصادفة النادرة جداً في حضرة مغني أو مغنية، مضافاً إليها مصادفة أخرى، تتمثل في قبول صاحب أو صاحبة الصوت بالغناء المباشر. ثم تجتمع فوق ذلك مصادفة لا تقل إعجازاً، تتمثل في حصول لحظة التجلي عند المغني....؛ عندها، ولا بد، سوف يتخبط أبو حيان التوحيدي، ويخال أنه في عداد الأموات!
***
لا أجزم أن صوت وديع الصافي ينتمي، في خامته وقامته و وحداته الأساسية، إلى تلك الأصوات التي عناها التوحيدي.. فهذا يستحيل على الاختصاصيين أنفسهم، لانعدام إحدى طرفي المقارنة؛ لكنه بالنسبة لي هو من الأصوات القليلة، والقليلة جداً، التي سمعتها، فرفعت إحساسي في التلقي إلى مصاف الشغف.. أو ما أتخيله عن التصوف.
ولكن لماذا نختلف حول وديع الصافي- وخاصة بعد اندلاع ثورة شعبنا السوري- برغم مرضه وشيخوخته.. وحتى بعد رحيله؟
أعتقد أن الجميع يضعون معياراً غير فنّيّ لمواقفهم من الفنان الراحل، بل يحكّمون المعيار السياسي. وهذا معيار لا يعنى بالصوت، ولا بالملكات الأخرى للفنان. وإذن فهو يضع معياراً واحداً للفنان، كما للخبير الاقتصادي، وللطبيب، والشاعر، والصحفي، والقاضي..الخ. ولعل أقل ما يقال في معايير من هذا القبيل أنها لا يعتدّ بها في حقل الاختصاص. وهي تشبه التشخيص الجماعي للمرضى بسماعة واحدة. فهي قيمة مضافة، تغوّلت على ما عداها من القيم، فالتهمتها. وذلك في رد اعتبار- كما أظن- على التهام الظلم للقيم الإنسانية الفاضلة.
و لكن، لكي لا أبتعد كثيراً في المعرفي، على حساب العمليّ، فأقع في ما انتقدته؛ دعني أسأل المتسرعين في تحميل الفنان ذنب التطنيب بالسفاح بشار الأسد، و أبيه من قبله؛ أسألهم أن يحكّموا ضمائرهم، بعد أن يضعوا أنفسهم في مكان الفنان الصافي. بما هو شخص أهمله بلده( المحتل من نظام الأسد و شبيحته حتى اليوم)، فلم يلتقطه سوى هؤلاء؟ و هل لعاقل أن يحمّله أكثر مما يحتمل، بل أكثر مما يستطيع زياد الرحباني أن يحتمل، و هو اليساري الذي اتّخذ صورة المتمرد، الهدّام، الشتّام، الخارج عن الأعراف و القيم..الخ؟
أعتقد أنه يكفينا هذه المقارنة البسيطة، لكي ندرك أن لبنان المحتل كله، غير قادر على أن يعطي جزءه موقفاً حراً، ما لم يكن محميّاً. و لا يخفى علينا أن نظام الأسد جعل من نفسه سند الجميع في لبنان( سند المتخاصمين ضد بعضهم، بل ضد أنفسهم)، و لم يترك لأحد منهم سنداً سواه. و هنا، و بدلاً من أن نلوم وديع الصافي، يمكننا أن نندبه حياً و ميتاً.. و نتألم على ذكراه. فمن امتلك صوتاً يهذّب الأحاسيس و يحيي الروح، يكون منا و نحن منه.
------------------------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة