نبتلي بثقافة ذات قابلية للإشعال الذاتي بحرائق المحرّمات، التي تلتهم الأخضر واليابس.
لا نزال طعاماً سهلاً لـ "الثالوث المحرم"، الذي تكلم عنه الراحل بو علي ياسين، في كتيّبه القيّم، بهذا العنوان. فما على من يريد إهلاك خصمه إلا أن يرميه بسهم من التهم الدينية أو الجنسية أو السياسية.
كان يؤمل من الثورة أن تنتزع السياسة من مخالب السلطة الطغيانية، عبر جعلها شأناً عاماً، وحقاً مكتسباً، لا رجعة عنه. يمكن التأسيس عليه، وبناء دولة الحريات العامة. التي يمكن للأجيال القادمة أن تعالج الدين والجنس، بطرائق تمكن من بناء حضارة سورية معافاة من الإعاقات وسعار المكبوتات.
لا تزال المحرّمات التي برعت السلطات في استخدامها قوداً، تغلّ أكرافنا، وتشل أدمغتنا، تشكل الثقب الأسود الذي يبتلع كل من يقرب منه، فلا يعود يجرؤ أحد على تذكره. وهذا يجعل من مجتمعنا- بمن فيه نخبه الثقافية- يتميّز بثقافة الضرائر؛ التي تحول المنتصر منا- فجأة- إلى مدافع رعديد، أمام تهمة يلجأ الخصم إليها للتخلص من وضع خاسر وجد نفسه فيه. فيأخذ المنتصر يتلهى في رد التهمة، منجرّاً لمبادلة الخصم فنون الشتيمة و قذيع الكلام، و تافه الردود التي تكيل له الصاع صاعات. وترد الحجارة من حيث أتت.
تقوم ثقافة الضرائر في محاولات مستميتة ليس فقط لتبرئة الذات؛ بل ولإثبات عظيم ولائهن للمالك- الزوج- صاحب الأمر والنهي في إصدار حكم الطلاق أو التبني والتقريب ورفع المراتب. ولعل المالك هنا أن يكون هو الهو الأعلى، الذي تحدث عنه فرويد، وتسلح به عبد الرزاق عيد، في شجار الضرائر ضد العلويين، لكي يثبت حقه في وراثة الأخلاق، وبناء القيم الجديدة، على أنقاض قيم بدائية، منفلتة الغرائز، أو منفلتة الغريزة الجنسية بالتحديد. وهي هنا ما يختزل به عيد الأخلاق و القيم والإنسانية.. وبقية صفات الإنسان المتحضر!
أثار تقرير الدكتور عبد الرزاق عيد معركة ضرائر مشينة. واختفى خلف نقعها ذلك المعارض اليساري المخضرم، الذي عاصر ثورة الطلاب في فرنسا، وحمل شهادة الدكتوراه من السوربون، وانتظم في الحزب الشيوعي السوري التقليدي "جناح بكداش"، لييبتعد عنه، محاولاً تشكيل مركز ثقل خاصاً به. فاضطلع في حرفة النقد والسجال، والمناظرات الفكرية. و بدا أن منشور الدكتور عيد أدنى من تحليل، وأكبر من خبر. وفي الحالين هو مثقل بالعنصرية، وخطل المطابقة بين النظام الأسدي وبين الطائفة العلوية. فواراً باعتمالات حقد، خرجت كالحمم في العنوان التالي "الغرب : العلويون والحداثة والإباحية الجنسية"، لتقع على رأسه من جملة الرؤوس التي استهدفها.
لقد عجز السيد عيد- كما يبدو- عن فهم التردد الغربي حيال الثورة السورية، و تمسكه بنظام الأسد، رغم كل جرائمه وأخطاره التي لا تقل عن أخطار أمثاله، ممن سبق للغرب نفسه أن ساهم في إسقاطهم؛ ولم يخامره شكٌ في أن موقف الغرب من نظام الأسد هو موقف نفسي، يقوم على تفضيل الموضة التي يمثلها لهم، والتي هي في نظر الكاشف الكبير عيد، ليست سوى "بدائية اباحيته الجنسية الرعاعية"، تنسحب على العلويين، الذين يصعب على خياله المريض أن يميزهم- أو حتى يميز أي تنوع فيهم- عن النظام. وللسيد عيد سبقٌ في اعتبار الدين محركاً للصراع البشري، كما أوحى بحثه القديم "منذ نحو سنة"، الذي اكتشف فيه أن بواعث أمراض السرطان عند المثقف العلويين" هاني الراهي، ممدوح عدوان و بو علي ياسين"؛ تعود للتوتر الذي كانوا يعانونه بين انتمائهم لمجتمعهم، وبين تمسكهم بالنظام الطائفي الأسدي!
ليت التعليقات على تقرير الدكتور عيد ركّزت على جوهر كشفه العليم، " أي أن ما يبدو للغرب أنه انفتاح مدني حداثي في أوساط الطائفة العلوية تجاه العلاقات الجنسية، ليس تعبيرا عن انفتاح مدني جضاري حداثي، بل هو تعبير عن حسية بدائية عرائزية لم ترتق فيه (الأنا الاجتماعية المدنية) للقمع او الكبت الحضاري الضروري للـ (هو الغريزي ) في مجتمعات الحداثة المنظمة والكابتة لاندفاعات ونزوات ( الهو ) من أجل الانتظام الذاتي الفردي والاجتماعي، حسب فرويد أحد أهم أنبياء الحداثة الغربية".
قيد عيد يديه بقيود ماركس و فرويد( لا أجد أن داروين له نصيب من زعمه)، وأراد تقييدنا؛ بدلاً من اعتماد منهجهما بطريقة علمية، تنتج وتثمر. فمن أثنى بفرويد على ماركس، عليه الا يقف عند فرويد، فيثني عليه بوليم رايش- على الأقل.
لن أماحك مختصاً مثل د. عيد في حقله. فقط أردت التركيز على أن ما ذهب إليه، لا يحتم علينا الأخذ به. فعند وليم رايش أن فرويد متشدد، هنا، في إعطاء الأنا العليا دور عصا السلطان. وينصح بترك الخيار للحرية غير المقسورة بالأنا العليا، ولا المأسورة بترسيمة التصعيد المثالي الفرويدي. فلماذا يكون عليّ مثلاً أن آخذ بفرويد، حتى أستحق اعتراف السيد عيد بأنني "شخص منتظم في الذات الجمعية"؟ هو حرٌ في أن يسمي هذه الحركة الانقماعية الطوعية بالحركة الارتقائية؛ أما أنا فأراها تخدم سيطرة السلطة على المجتمع، بواسطة التحكم بالغرائز.
حين يحكم السيد عيد على هذا الاختلاف الحر، بأنه "حسية بدائية عرائزية"؛ فهذه طامّة الثقافة النقليّة.. التي تعجز عن الإضافة، إذ تربط نفسها بحبل النقل، وتعض على طرفه بأسنانها!!!
----------------------------------
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة