مقالات الرأي | كان أهالي اللاذقية قد اعتادوا وتيرة الحرب الدائرة في بلادهم. فمع تطاول أمد الصراع، طور كل منهم استعداداً نفسياً لخسارات جسيمة متوقعة، لا تستثني الاستعداد لموت طارئ محتمل. كانوا قد اعتادوا أصواتاً يومية جديدة: صوت أبواق سيارات الإسعاف القادمة من أماكن الصراع البعيدة نسبياً عن المدينة، وأصوات الرصاص المرافقة لتشييع جثامين ضحايا الصراع الدائر، والرصاص المرافق للسيارات العادية التي تنقل جرحى المعارك كبديل عن بوق الإسعاف للمساعدة على فتح الطريق. ولكن بعد يوم 21 آب الكيماوي، والتخطيط الأمريكي لشن ضربات عسكرية على مواقع تابعة للنظام السوري، دخل عامل جديد خلخل اعتياد الأهالي هنا وتجاوز عتبة القلق التي باتت مرتفعة بعد سنتين ونصف من الصراع المسلح.
ففي السرافيس وفي المحلات التجارية وفي غرف الانتظار في العيادات وأمام الفرن وعلى مواقف الباصات وفي الطرقات وحيثما يلتقي سوريان معاً بما يسمح لهما بتبادل الحديث يكون السؤال: "شو رأيك؟ فيه ضربة؟" حل هذا السؤال محل التشكي الذي اعتاد الناس على تبادله هنا منذ ما يزيد عن سنتين، عن ارتفاع الأسعار وندرة الأدوية وأخبار الخطف والموت واستدعاء الاحتياط ..الخ.
في البيوت وفي الجلسات التي تجمع الأقارب والأصدقاء ينتقل الناس إلى السؤال التالي: ما هي أهدافهم الممكنة في اللاذقية؟ وهل منازلنا قريبة من الأهداف المحتملة بما يمكن أن يعرضنا للخطر؟ هل يمكن أن يستهدفوا مساكن المدنيين؟ ..الخ.
عائلات كثيرة تركت بيوتها القريبة من مراكز أمنية أو عسكرية لتبات لياليها عند أقارب أو أصدقاء في مناطق أخرى يعتقدون أنها أكثر أماناً. يظنون أن الضربة ستكون ليلاً أو فجراً، لذلك يقضون نهارهم في بيوتهم "الخطيرة" ويبيتون ليلتهم خارجها.
عائلات كثيرة أعادت ترتيب أولوياتها، فالمبالغ التي كانت وفرتها لشراء مستلزمات أولادهم للمدرسة التي اقترب موعد افتتاحها، تحولت إلى شراء مؤونة غذائية للأسرة تحسباً للضربة التي يمكن أن تجبرهم على البقاء في بيوتهم لفترات غير معروفة.
الازدحام على الأفران لتأمين الخبز لأيام قادمة قبل أن تتسبب الضربة في توقف الأفران. الازدحام شديد على كل الأفران العامة والخاصة، وتناقل الناس خبر وفاة شخصين جراء العراك بأسلحة بيضاء أمام أحد الأفران بسبب خلاف على الدور.
ساهمت الفضائيات والتحليلات المتضاربة في جعل الأهالي على قلق دائم بشأن توقيت الضربة وحجمها، حتى باتوا يهدهدون مخاوفهم بالمزيد من التحليلات. وأنت تلقي السلام على جارك في الشارع، سوف يطلب منك أن تتوقف قليلاً لتجيب عن السؤال الدائر على كل لسان: "شو رأيك؟ في ضربة؟"
هناك ضربة قادمة، لكن هل هي ضربة محدودة ولا تهدف إلى إسقاط النظام، كما يقول الأمريكيون؟ يتساءل الأهالي. أم أنهم يوهموننا بالكلام الصغير ويخبئون لنا الأفعال الكبيرة؟ لا يثق الناس هنا بتصريحات القادة الغربيين. "الشهية تزداد مع الأكل" يقول أحد مثقفي اللاذقية، "حين تتحرك أمريكا عسكرياً فإنها لن تكتفي بضربة محدودة، ولاسيما إذا تلقت رداً على ضربتها. الضربة ستكون بداية حرب واسعة".
قد يكون هذا المشهد مشتركاً بين اللاذقية وبقية المناطق السورية، غير أن ما يميز المشهد في اللاذقية شيئان رئيسيان: الأول هو أن خوف الناس الأكبر لا يتأتى في الحقيقة من الضربة الأمريكية حصراً، إنما من تبعاتها. فالأمريكان وحلفاؤهم سوف يضربون أهدافاً عسكرية وأمنية، والغالب إنهم لن يستهدفوا المدنيين. ما يخشاه الأهالي هنا هو استغلال المسلحين (هذه تسمية كثيرة الاستخدام هنا وتعني كل من يحمل السلاح في وجه النظام) للضربة كي يهاجموا الأهالي ويقوموا بمجازر انتقامية ضد المدنيين. يتكرر التعبير عن هذه المخاوف بين العلويين وبين صريحي الولاء للنظام من السنة.
الشيء الثاني الذي يميز المشهد في اللاذقية وهو على صلة بالأمر الأول، هو الانتشار الكثيف جداً لقوات الدفاع الوطني وبأسلحة متوسطة وخفيفة في كل زوايا المدينة، ولاسيما في مناطق التماس بين الأحياء ذات الغالبية العلوية وذات الغالبية السنية. الشيء نفسه ينطبق على القرى التي صارت في الفترة الأخيرة مسرحاً لصراعات أخذ ورد بين قوات إسلامية محسوبة على المعارضة وبين النظام. ومنبع الخوف هنا هو أن صورة وسمعة هذه القوات بين الأهالي غير حميدة، جراء ما يتناقل الأهالي عنها من أعمال نهب وسلبطة وإهانات للناس..الخ.
المخاوف الأكبر لدى أهالي اللاذقية جميعاً وبكل انتماءاتهم الطائفية وميولهم السياسية، تنبع من تبعات تخلخل ميزان القوى العسكري على الأرض جراء الضربة المحتملة. الأمر الذي يمكن أن يحمل المخاطر على حياة مدنيين أبرياء. هذه حال تميز اللاذقية. إذا شعر النظام بدنو الأجل فقد يقدم على أعمال جنونية. وإذا شعرت المعارضة بضعف النظام فقد تقدم على أعمال انتقامية مجنونة أيضاً. هذا ما يولد المخاوف عند الأهالي هنا أكثر من الضربة بحد ذاتها.
مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة، إنما تعبر عن رأي كاتبها.