وديع صالح | لخدمة من وكيف تم ويتم السعي لإحلال الهوية الطائفية والعرقية محل الهوية الوطنية للثورة السورية؟ وفي حال لم تهدف الثورة السورية إلى إقامة دولة المواطنة وسيادة القانون التي تضمن مساواة في الحقوق لجميع مواطنيها، فإلى أين يمكن للغايات الأخرى أن تقود المجتمع؟
يستوجب الواقع المعقد الناجم عن تحول الثورة إلى معركة مسلحة، طرح تلك الأسئلة. ثمة وقائع وشهادات عديدة، من بينها اختفاء الأب باولو أو الشهادة التالية:
"احتفى المتظاهرون بي، رفعوني على الأكتاف، واستقبلني مكبر الصوت بتحية نصها: "حييو العلوية" ... ورد المتظاهرون: "حيينا!"، عندها عبرت عبر المكبر ذاته عن احتجاجي لأني أتيت إلى المظاهرة ممثلاً لتطلعاتي باعتباري "سوري"، وسروري لأن حامل مكبر الصوت، لا يعرف طريقة أخرى للقول أنه ليس طائفياً! وحين هتفت : حيو الحرية ... رددوا: حيينا ..حيوا سوريا ...حيينا. وصرت معروفاً مع بعض الأشخاص الآخرين بالعلويين. بعد خمسة أشهر من الاشتراك بالتظاهرت نصحني صديق أن لا أشارك في المظاهرة لأن "السنة" الذين يحبونني ويثقون بي لا يضمنون حمايتي! ولكني شاركت. وبعد شهر: أخليت بيتي في حمص وانتقلت إلى مدينة أخرى! واستجبت هذه المرة لما قاله لي أصدقائي، فالسلاح في أيدي من لا "يمونون" عليهم يمثل خطراً على حياتي بل وحياة أسرتي".
لم يقتصر أثر "السلاح" على تهجير معارض غير طائفي، وعلى تغييب أنبل العاملين في خدمة الثورة السورية على أيدي ميليشيات وأجهزة النظام أو ميليشيات تعمل تحت يافطات إسلامية، لا يزال البعض يصر بأنها تابعة للنظام، وتحدث كثيرون عن الآلية التي اعتمدها النظام لجر الثورة إلى حرب طائفية وتغيير طبيعتها، سواء عبر الألاعيب المخابراتية، أو من خلال الدور الذي لعبته ميلشيات "الشبيحة"، لاسيما في مناطق التماس الطائفي كحمص وبانياس وبعض أحياء دمشق. بيد أن هذا لم يكن العامل الوحيد لتحول مقارعة الاستبداد إلى حرب تفوح منها رائحة الجثث بالمعنى المباشر للكلمة وبالمعنى المجازي، حيث استيقظ أسوأ ما في ماضي سورية والمنطقة ليحل محل أجمل ما يتطلع إليه السوريون. ولم ينضبط إيقاع الثورة السورية الداخلي، ولم يتوافق مع الإيقاعات الإقليمية والدولية إلا من خلال شخصيات وقوى بذاتها، تتعامل مع دول بعينها؛ ما أدى إلى المزيد من التشتت، وما حول الكثير من قادة المعارضة المسلحة إلى حملة أجندات طائفية أو قومية، بعيدة عن الأهداف التي أعلنتها الثورة في بداية انطلاقتها، وبدلاً من تكريس تغني السوريين بأحلامهم وتطلعاتهم، تم تفعيل المزيد من المارشات العسكرية االمشبعة بالحقد والثأر القائم على أقبح المعايير: الهويات الدينية والقومية. وفي سياق الحرب أصبح حملة السلاح هم أصحاب القرار، وتحول بعضهم إلى أمراء حرب، وجاهر بعضهم بالعداء للديمقراطية، وفاحت من ممارساتهم (كتلك التي شهدتها مدينة الرقة) رائحة الفاشية.
كان لطول أمد الصراع، وتمويل وتسليح قوى بذاتها، وطابع الإعلام الإقليمي الذي يلوي أعناق الحقائق لصالح موقف تتبناه إدارة القناة المعنية سواء كانت تعمل لخدمة المعارضة أو لخدمة النظام، دوراً واضحاً، ولولا إمكانية التواصل بين المقيمين في سورية لانطلت علينا أكاذيب كثيرة من تلك التي يروجها بعض مراسلي القنوات الفضائية. وتتشابه الأساليب الإعلامية للأطراف المتحاربة، فتحرير منطقة مثلاً ، كما تسميها المعارضة المسلحة من قبل جيش يعمل تحت يافطة إسلامية، يترافق مع إعلام لا يختلف عن إعلام النظام في مجانبته للحقيقة. ففي حين يتحدث الإعلام المعارض، بل بيان الإئتلاف نفسه، عن الأمن والأمان الذي يتمتع به أهل المنطقة التي دخلها مسلحو المعارضة، لا سيما التي يقطنها العلويون والأكراد، نرى بالعين المجردة أن ذلك "التمتع بالأمان" يحول المدنيين إلى مهجرين ومقتولين ومخطوفين. وفي حال تمكنت قوات النظام من استرداد المنطقة يصف إعلام النظام المنطقة بأنها تطهرت، وكثيراً ما يعني تطهير منطقة: القتل، ونهب البيوت والمحلات، وتدمير المزيد من ملامحها المعمارية.
يعرف كل متابع جدي لوقائع الصراع المسلح، وخصوصاً في الشمال، ما يتيح القول: ما لم يتمحور الصراع حول حقوق السوريين جميعاً بدولة يتمتعون فيها كمواطنين بحقوق متساوية، ستكون دماء شهداء سوريا قد هدرت لزراعة أشكال جديدة من العقلية الثأرية والانتقامية التي تعتقل المستقبل، ليسود أبشع ما في الماضي.
*مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي روزنة وإنما تمثل رأي كاتبها.