"بعد عودتي من المدرسة آخذ فترة استراحة لمدة ساعة ومن ثم أنطلق إلى العمل في مهنة العتالة بأحد أسواق الهال المتواجدة في المنطقة"، يقول أحمد فاروق لـ"روزنة" معلم متطوّع في إحدى مدارس المخيّمات بالشمال السوري.
فاروق أب لخمسة أطفال، اضطر للعمل في العتالة بعد نزوحه من بلدته جنوبي إدلب، بسبب عدم وجود رواتب من مديرية التربية التابعة لـ"حكومة الإنقاذ"، فهو متطوّع منذ 3 سنوات، يعمل دون مقابل على أمل دعم القطاع التعليمي، بعد العديد من الوعود التي تقدمها مديرية التربية في المنطقة.
منذ مطلع الفصل الدراسي الثاني في الخامس من الشهر الجاري، نظّمت عشرات المدارس العاملة في محافظة إدلب، التابعة لمديريتي التربية والتعليم في محافظتي إدلب وحماة، وقفات احتجاجية وإضراب عن التعليم، نتيجة استمرار عملهم بشكل تطوعي منذ عدة سنوات، ما أدى إلى تدهور أوضاعهم المعيشية مع غياب حلول جذرية لهذه المشكلة.
عمران، معلّم تاريخ نازح في أحد مخيمات الشمال السوري، متطوّع في التعليم منذ 3 سنوات لدى التربية في إدلب، يقول لـ"روزنة": منذ سنوات تعدنا مديرية التربية بتأمين الدعم للقطاع التعليمي.. يئسنا من الوعود".
ويضيف: "أعيل والدتي وزوجتي وولدين، لا حل لدي سوى الاستدانة، فكيف لي بالعمل وأنا بالمخيم" ويطالب بـ"رواتب تعويضية عن سنوات العمل التطوعي".
في محافظة إدلب مديرتي تربية، إحدهما تابعة لإدلب والأخرى تابعة لحماة، تمركزت في محافظة إدلب بعد سيطرة النظام على أرياف حماة، ويتبع لها العديد من المدارس في المحافظة.
والعدد الأكبر من المدارس الموجودة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري شمال غربي سوريا هي مدارس غير مدعومة أو مكفولة من قبل المنظمات.
ويشارك في الإضراب المفتوح عن الدوام المدرسي، 94 مدرسة، بحسب قائمة وصلت "روزنة" نسخة منها.
"بدل أن أكون معيل لأسرتي أصبحت عبئاً عليهم، لذلك قررت المشاركة في الإضراب لحين تأمين رواتب للمعلمين وتحسين ظروف العملية التربوية بشكل كامل" يقول هيكل العيسى لـ"روزنة"، معلم بمدرسة البيان في أحد مخيمات بلدة كللي شمالي إدلب.
ويضيف: "فخور جداً بعملي كمعلم ولكن منذ ثلاثة سنوات وحتى الآن أعمل بشكل تطوعي باستثناء بعض المنح التي إذا ما جمعت على مدار العام لا تقارن براتب شهر واحد".
القليل من المدارس تحظى بدعم من بعض المنظمات، وبخاصة السنوات الدراسية الأولى في محافظة إدلب.
مهن إضافية بعد التعليم
في ظل العمل التطوعي وانعدام الدخل وارتفاع الأسعار وصعوبة المعيشة، يضطر عدد كبير من المدرسين للجوء إلى أعمال أخرى لا تناسب وضعهم بجانب عملهم كي يستطيعوا تأمين دخل بسيط لعوائلهم.
صيانة الدراجات النارية وتكسير الجوز وبيع الفول في الشوارع الشعبية والعتالة والتحطيب، هي أعمال امتهنها معلمون في سبيل تأمين العيش الكريم لعائلاتهم، فيما البعض الآخر يعيش على الاستدانة.
سامر أبو قيس، معلم في بلدة جنوبي إدلب، يعمل كمتطوّع لأكثر من 3 سنوات، "لا مهنة لدي سوى التعليم، الاستدانة هي ما نعتمد عليه معظم الأحيان، أنا وزملائي المعلمين، من أجل تأمين لقمة العيش".
ويضيف: "لو سألت السمان والصيدلي وغيرهم لأخبروك بديون المعلمين وضيق حالهم، أحياناً بعد الدوام نصعد إلى الجبل لجمع بعض الحطب، قسم منه للتدفئة وقسم آخر نبيعه لشراء بعض الخبز".
اقرأ أيضاً: معلمون سوريون مصيرهم التشرد: هل عجزت اليونيسيف عن دعمنا؟

وعود مستمرة!
مع بداية كل عام دراسي جديد تشجع مديريات التربية في المنطقة المعلمين بتحسين واقعهم من خلال وعود بتأمين رواتب أو كفالة المدارس من قبل المنظمات، ينتهي العام دون تحقيق أي شيء من هذه الوعود.
تتبع مدرسة أبو قيس لتربية إدلب: "منذ 4 سنوات والتربية لا تقدّم سوى الوعود، بعدما شاركنا في الإضرابات السابقة وعدنا وزير التربية السابق أنّ لديه خطة (أ) وخطة (ب)، وأن الراتب سيكون مؤمناً بنهاية العام السابق للجميع، لكن لم يتحقق شيء".
ويتابع: "وعدنا أيضاً بـ 400 ليرة تركية كل شهر مع سلة، أعطونا إياها مرة واحدة، وذابت مثل الملح، فكان راتب الفصل الأول كاملاً بـ 400 ليرة تركية".
"وقفة الكرامة"
عمل المدرس بشكل تطوعي خلال السنوات الماضية، وعجزه عن تأمين أبسط مقومات الحياة أفقدت مهنته مكانتها بالمجتمع، وباتت تشكّل حرجاً على الكثير منهم لذلك أطلق مدرسو تربية حماة على وقفاتهم "وقفة الكرامة".
المعلم حسين هاشم، يقول لـ"روزنة": "نتيجة التطوّع لمدة ثلاث سنوات لبعض المعلمين، وأربع وخمس سنوات للبعض الآخر، دون توفير أي دخل للمعلم سواء من الجهات المسؤولة عن العملية التعليمية أو الداعم لها، الأمر الذي أدى لإراقة وجه المعلم سواء من شرائح المجتمع أو الجهات المسؤولة عن تأمين دخل المعلم، التي لم تستطيع إلا تقديم القليل من الفتات للمعلمين".
"أشعر بالخجل نهاية الدوام المدرسي عندما أعود إلى منزلي فارغ اليدين" يتحدّث المعلم نزار الدليمي لـ"روزنة"، وضعه بعد تطوّع دام 4 سنوات في مدرسة الصناعة التابعة لمديرية تربية حماة، والتي لم يتلقَ منها سوى سلة إغاثية خلال الفصل الأول من هذا العام الدراسي، معتبراً هذا الشيء معيب جداً بحق مدرس لديه عائلة وأطفال.
واقع العملية التعليمية في المنطقة
الكثير من المدارس تعاني من نقص حاد في كافة الخدمات والتجهيزات اللوجستية البسيطة التي تحتاجها العملية التعليمية.
"ففي ظل هذا البرد القارس تعاني معظم المدارس التي قامت بالإضراب من انعدام التدفئة، وهذا أقل ما يمكن أن يقدم للتلميذ وليس للمعلم" يقول المعلم حسين الجاسم لـ"روزنة".
وعن دعم المنظمات لقطاع التعليم يقول المعلم هيكل العيسى: "المنظمات الإنسانية غالب الدعم المقدم منها توجهه لأمور ثانوية كدعم نفسي وإدارة حالة وحماية، والتي كان من المفترض أن تكون بعد تأمين رواتب للمعلمين وتحسين واقع العملية التعليمية"
ويرى المعلّم نزار الدليمي أن "المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة تكفل من بين كلّ عشرين مدرسة، مدرسة واحدة، وأن الواقع التعليمي محارب والأستاذ محارب ومقطوع عنه الدعم ليجلس ببيته وتتوقف العملية التعليمية".
ويضيف الدليمي لـ"روزنة": "نحن كمدرسين متطوعين في كل عام نقول أنّ هذا العام الأخير هو الأخير في العمل التطوعي، تأتي التربية وتعدنا أنه سيكون هناك دعم من قبل المنظمات ونتفاجأ بأنها وعود فارغة وليس لها أثر على أرض الواقع".
غالبية المعلمين نازحون والقسم الأكبر يسكنون بالإيجار، وسط تردي الوضع المعيشي، وهو ما ينعكس بشكل كبير على وضعهم النفسي، ولا سيما خلال التعليم، معظمهم يطالب بـ "راتب ولو كان قليلاً لسد رمق العيش".
قد يهمك: تركيا: معلمون سوريون يستعيدون وظائفهم بعقود رسمية

من يتحمّل المسؤولية؟
يحمّل عدد من المعلمين "حكومة الإنقاذ" المسؤولية عن عدم دعم القطاع التعليمي، لكونها المسؤولة عن جباية الضرائب في المنطقة، فهي المكلّفة بتأمين الرواتب للعاملين في حكومتها، وفق قولهم.
ويحمّلون أيضاً "الحكومة المؤقتة" و"الائتلاف السوري المعارض" المسؤولية "لكونهم كيانات تحسب على الثورة"، كما تتحمّل المنظمات الإنسانية المسؤولية عن ضعف القطاع التعليمي، بحسب اتّهاماته.
وبرأي العيسى أنّ استمرار الإضراب أو العملية التعليمية بهذا الشكل سيؤدي لتجهيل الجيل واتجاه الأطفال نحو العمالة المبكرة أو الانخراط بالصراع المسلح.
التربية تدق ناقوس الخطر
تعترف مديرية التربية في حماة بعجزها عن دعم القطاع التعليمي، ويقول مدير التربية مروان حمادي، لـ"روزنة": "رغم إدراكنا لخطورة هذا الأمر وانعكاساته السلبية على سوية التعليم إلا أننا نجد أنفسنا عاجزين عن فعل شيء، خاصة أن جميع الأبواب سدت في وجوهنا من قبل الجهات الداعمة التي تبذل الأموال الطائلة في جوانب ثانوية لا تغني ولا تسمن من جوع، وتهمل التعليم والقائمين عليه وتحرم الطلاب من أبسط حقوقهم في الحياة".
وحذّر الحمادي من أنّ "العملية التعليمية برمتها مهدّدة بالانهيار إذا لم تمد يد المساعدة لمدارسنا بطلابها ومعلميها، ونحن من هنا نقرع ناقوس الخطر عسى أن نجد أذاناً صاغية ويداً حانية تمتد لإنقاذ معلمينا وتنتشل طلابنا من براثن الجهل والضياع".
ولا يختلف الأمر في تربية إدلب التي يتبع لها العدد الأكبر من المدارس في المنطقة، في الوقت الذي يعاني به قطاع التعليم بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري من شحّ الدعم من قبل الجهات الإقليمية والدولية.
الكلمات المفتاحية