يحرض انتشار الرشوة على المزيد من الفساد، وسرعان ما ينشر السلوكيات اللاأخلاقية في جميع أرجاء المجتمع وكيانات ومؤسسات الدولة.
تخيل أنك توجهت في أحد الأيام إلى مقر البلدية لاستخراج تصريح بناء، فأخبرك الموظف الذي يتلقى منك الطلب أنه نظراً للعدد الكبير من الطلبات التي يتلقاها المكتب، فسوف يستغرق الموظفون مدة قد تصل إلى تسعة أشهر لإصدار التصريح لك. لكنه يضيف أنك إذا منحته 100 دولار، فسوف يضع طلبك في صدارة طلبات استخراج التصاريح.
حينئذ تدرك أن ذلك الموظف قد طلب للتو منك رشوة، أي أن تدفع مبلغاً مالياً بطريقة غير مشروعة لتلقّي معاملة تفضيلية. حينها من المرجّح أن يجول في ذهنك عدد من الأسئلة: هل أدفع لتسريع الأمور؟ هل كان أي من أصدقائي أو أقاربي سيفعل الشيء نفسه؟ إلا أنك لن تتساءل على الأرجح عما إذا كان مجرد تعرّضك لذلك الطلب من شأنه أن يؤثر على قراراتك الأخلاقية التي سوف تتخذها لاحقاً.
ظاهرة عالمية!
من الصعب حقيقةً قياس مدى انتشار الرشوة بدقة، لكن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن حجم المعاملات الفاسدة التي يتم تداولها عالمياً، قد يصل إلى تريليون دولار سنوياً. وفي عام 2018، أفادت منظمة الشفافية الدولية أن أكثر من ثلثي الدول التي شملتها دراسة استقصائية أجرتها المنظمة وعددها 180 دولة، حصلت على درجة أقل من 50 على مقياس متدرج من 0 "فاسدة للغاية" إلى 100 "نظيفة للغاية". إذ تتصدر فضائح الفساد الكبرى وبانتظام عناوين الصحف العالمية.
ويوضح "مقياس الفساد العالمي" الصادر عن منظمة الشفافية الدولية أيضاً، أن واحداً من كل أربعة أشخاص شملهم الاستطلاع قال إنه دفع رشوةً لقاء خدمة عامة، في حين زادت هذه النسبة إلى واحد من بين كل ثلاثة تقريباً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إن انتشار الفساد يعوق حركة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول، فهو يؤثر سلباً على النشاط الاقتصادي ويضعف دور المؤسسات ويعرقل الديمقراطية. ويقوِّض الفساد ثقة العامة بالمسؤولين الحكوميين والساسة وكل من له صلة بهم. وقد يكون فهم السيكولوجيا الكامنة وراء عملية انتشار الرشوة أمراً ضرورياً للتصدي لهذه الآفة الخطيرة.
مما يثير القلق أن العديد من الدراسات الإحصائية والأبحاث المعاصرة تشير إلى أن مجرد التعرّض لطلب الرشوة هو أمر يحض على المزيد من الفساد. وما لم تتخذ إجراءات وقائية، فمن الممكن أن ينتشر الغش وعدم الأمانة على نحو خفي وغير متعمّد من شخص إلى آخر تماماً كالمرض المعدي. مما يؤدي إلى تقويض الأعراف الاجتماعية والأخلاق. وما إن تترسخ ثقافة الغش والكذب بين الناس، حتى يكون من الصعب للغاية مقاومة انتشارها أو التخلص منها.
انتشار العدوى..
لنفترض أنك رفضت طلب موظف البلدية للرشوة. كيف ستؤثر تلك التجربة على استجابتك لأية معضلة أخلاقية لاحقة تواجهها؟ في العديد من الدراسات التي جرت خلال العامين الماضيين وكان هدفها الإجابة عن مثل هكذا سؤال. تم إجراء محاكاة كاملة لمواقف توحي بعدم الشرعية وغير مقترنة بسياق، أي المواقف التي لا تتأثر بالأعراف الاجتماعية أو المعايير الثقافية، وذلك لإيجاد معضلات أخلاقية مماثلة لتلك التي قد تنشأ في الحياة الواقعية.
وقد أشارت نتائج تلك الدراسات إلى أن معظم الناس يميلون إلى التصرف بطريقة غير أخلاقية إلى الحد الذي يسمح لهم بتحقيق الاستفادة المادية ويتيح لهم في الوقت نفسه الحفاظ على صورتهم الذاتية. وقد أجريت دراسات وتجارب خاصة أيضاً لمعرفة ما إذا كان الأشخاص سيتصرفون بطريقة غير أخلاقية بدرجة أكبر عندما يدفعون رشوة، أم عندما يتعرضون لطلب الرشوة فحسب. فكانت تلك النتائج الصادمة، والتي أظهرت أن تعرض الأفراد فقط لطلب الرشوة سيؤدي إلى تآكل الحس الأخلاقي عندهم، مما يدفعهم إلى التصرف بصورة أقل أمانة عند اتخاذ قراراتهم الأخلاقية اللاحقة.
سيكولوجيا انعدام القيم!
تؤثر الأعراف الاجتماعية، أي أنماط السلوك المقبولة بوصفها سلوكيات طبيعية، على تصرفات الناس في العديد من المواقف، بما في ذلك المواقف التي تنطوي على معضلات أخلاقية. للأعراف الاجتماعية تأثير كبير في تشكيل السلوك غير النزيه. ففي البلدان التي يختبر فيها الأفراد وبانتظام دفع الرشاوى للحصول على معاملة تفضيلية، تصبح الرشوة شيئاً فشيئاً أكثر قبولاً وعرفاً يتباهى به الجميع في تلك المجتمعات، وهذا بحد ذاته منحى خطير وله تداعياته الكبيرة. فمع مرور الوقت، يصبح الخط الفاصل بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي ضبابياً للغاية، ويتحول للأسف انعدام الأمانة "طريقة لتسيير الأعمال".
وفي رحلة الغوص في الأعماق لسبر الآليات النفسية ذات الصلة بتفشي ظاهرة الرشوة والسيكولوجيا الكامنة وراء انتشار الفساد. تشير العديد من الدراسات إلى أن الأشخاص يتأثرون بالرشوة بدافع من المصلحة الشخصية، وليس لأنهم يريدون رد المعروف للشخص الذي دفع الرشوة. وأن الفساد الشديد ينشأ تدريجياً عبر سلسلة من الأعمال غير النزيهة متزايدة الشدة.
القانون أولاً.. وأخيراً!
من المثير للاهتمام أيضاً أن هناك أبحاث عن الثقافات تم نشرها عام 2016 تظهر أن الميول الغريزية للناس للتصرف بعدم أمانة تتشابه في جميع البلدان. فبغض النظر عن البلد، وجد أن جميع الأشخاص يمارسون الغش بالدرجة التي تتيح لهم الموازنة بين دوافع كسب المال، ودوافع الحفاظ على صورة أخلاقية إيجابية لأنفسهم.
فلماذا إذاً نلاحظ وجود تلك الاختلافات الضخمة والتفاوتات العميقة على الصعيد العالمي فيما يخص مستويات الفساد والرشوة؟ ليتضح لنا لاحقاً أنه على الرغم من النزعة الفطرية لدى الأفراد للتصرف بنزاهة أو بغير نزاهة والمتشابهة إلى حد كبير بين جميع البلدان، فإن الأعراف الاجتماعية وصرامة تطبيق القانون تؤثر بشدة في تشكيل السلوكيات الأخلاقية للمجتمعات.
إذا عدنا إلى المثال الأول الذي طرحناه في مستهل مقالنا، سنرى أن المعاملة الفاسدة التي عرضها موظف البلدية ربما تبدو غير ذات أهمية، أو على الأقل يمكن اعتبارها واقعة فردية. لكن الأمر المؤسف هو أن طلباً واحداً للرشوة سوف يكون له تأثيره العميق على الراشي والمرتشي معاً. وأن آثاره المتعاقبة يمكن أن تمتد مع مرور الوقت إلى العديد من الأفراد، وستنتشر تبعاته الخطيرة بسرعة في جميع أرجاء المجتمع. وإذا تُركت دون رادع، فإنها حتماً سترسّخ لثقافة كاملة من الغش والخداع وانعدام الأمانة.