ليس بالضرورة أن تكون صديقاً قديماً للشاعر والفنان التشكيلي السوري سعد الله مقصود، فإن جمعتك الحياة به مرات قليلة سيترك هذا الإنسان النبيل، أثراً ما في روحك لا يمحى، يصفه أصدقائه بالمتمرد، الغاضب، النزق، والصريح إلى حد القسوة، وهذه الصفات لا تحجب النبل واللطف والكياسة واحترامه وتقديره لأي لمسة أو كلمة أو فعل طيب تجاهه.
في يوم الاثنين 12 أيلول الماضي، دعا سعد الله الأصدقاء لحفل توقيع ديوانه الأول "وكأن كل شيء على ما يرام"، في مطعم "كزا مزا" في مدينة مونتريال الكندية.
تمرد سعد على مجتمعه منذ زمن طويل، فغادر الوطن مع عائلته إلى كندا، بحثاً عن حياة أفضل، يقول مازن الخش عن صديق عمره بأنه كان سباقاً في تمرده ورفضه للواقع الذي كنا نعيشه في سوريا قبل الثورة السورية بسنوات طويلة، وكان جريئاً جداً فيما يقول ويفعل، وأنه يتمنى لو كان مثله، ويؤكد: "ربما لو كنا مثل سعد لما وصلنا إلى هنا".
رفض مقصود التعامل والاستفادة من منظومة الفساد التي كانت تحكم العلاقات في أوساط المثقفين والفنانين السوريين، ففضل الهجرة إلى كندا على ذلك.
من يعرف سعد الله مقصود عن قرب، يعرف أن حياته كانت عبارة عن رحلة ألم طويلة، فالألم رافقه مذ كان طفلاً بعمر السنتين، حيث أصيب بمرض حمى البحر الأبيض المتوسط، وهو نوع من الأمراض التي لا شفاء منها، تأتي على شكل نوبات توازي آلامها مرض السرطان الذي أصيب به قبل سنة ونصف.
تقول زوجته، الفنانة التشكيلة السورية، رولا تعلب: "سعد الله مزيج من الجمال والألم، الجمال الخارجي والداخلي، والآلام الجسدية من الأمراض والنفسية حزناً وقهراً على سوريا.. ألمه الأكبر".
سعد الله الحالم، جمع أصدقائه قبل رحيله بأسبوع واحد، وأوحى لهم أن كل شيء سيكون على ما يرام، حتى بدا لهم أن توقيع الديوان فتح باب الأمل لعودة صديقهم إلى الحياة التي يحبها، فسألوه عن موعد توقيع كتابه الثاني "لا شأن لي".
تقول ماريا ظريف التي شريكته في الأمسية، حيث ألقت القصائد بالفرنسية بينما ألقاها سعد الله بالعربية، إن "دعم أصدقائه حتماً سيحدث فرقاً، فنحن هنا لنقول له: كلنا معك".
وكذلك عبر فادي صقر شريك سعد بمطعم "كزا مزا"، أن هذه الأمسية أعادت سعد الله للمكان الذي يحب ولكن كشاعر، فأحس بالاختلاف الكبير والسعادة التي ملأت قلب سعد بتحقيق هذا الحلم المنتظر منذ سنوات.
أما أحمد يوسف دواد، فتحدث عن إعجابه بكتبات سعد الله مقصود من خلال موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وأن هذا الإعجاب صار أكبر عندما سمع شعره وتعرف إليه، وأضاف: "أحسست أن هناك شيء على ما يرام، في مواجهة العبث الذي نعيشه كسوريين.
بصوته الدافئ المتمازج مع صوت مضخة الأوكسجين، قرأ سعد الله مقصود مقاطع من ديوانه:
سنعود وسنقف طويلاً على شرفة في حي برزة
وننظر مطولاً جهة القلب، جهة داريا
وبانزياح قليل سنلتقط أول المخيم
ونركض لاهثين باتجاه روائح متأخرة أربع سنين من جهة الغوطة،
على شرفة في برزة أو ربما أعلى قليلاً في المهاجرين، سنعاين كمعماري بابل
خيط الشمس الذي سيدلنا على زواية حجر الأساس
هناك، حيث سنبدأ البناء من جديد.
"سأحلم وأحلم وأحلم.. بما هو أفضل.. حتى لو بقي بيني وبين القبر.. ربع خطوة..."
هكذا كتب سعدالله مقصود، على صفحته في موقع "فيسبوك"، منذ فترة قريبة، فكان توقيع الكتاب واحد من أحلامه الكثيرة، التي لم يمهله الموت لإنجاز بعضها، فغادر الشاب الجميل ابن الخمسين عاماً، هذه الحياة، في يوم الاثنين 19 أيلول، وكان هو التاريخ المقرر لتوقيع الكتاب قبل أن يتم تقديمه. ودفن في مقبرة مون رويال في مدينة مونتريال، يوم الاثنين 26 أيلول.