ريما فليحان تكتب، عن السوريين في المنفى:
أتابع يومياً كل ما يكتب ويبث عن تطورات الحدث في سوريا، وأقرأ تحليلات وتعقيبات كل من له علاقة بالمسألة السورية، بالاضافة الى كل من قرر أن يكون خبيراً في مأساة وطن، أرادت كل بلاد الأرض أن تساهم في حلبة تصفية الحسابات على أرضه، وأن تتفرج على موت أبنائه وتشريدهم وعذاباتهم اليومية، لا بل أن تضع بصماتها على كل أدوات تعقيد مأساته!
بحيث بات السوريون يسخرون من تصريحات الساسة وبيانات الادانة والامتعاض والقلق الصادرة عن الامم المتحدة ووزراء الخارجية، لأنهم اعتادوا عدم جدواها ولأنهم فقدوا الثقة بالجميع وبكل شيء..
أتابع كل هذا يومياً وأنتظر اليوم التالي بفارغ الصبر على أمل أحمق لسماع خبر سار عاجل وغير متوقع، قد ينسف بطء المسار وتشظي السوريين للوصول الى مرسى..
الا أن هذا الخبر المنتظر الذي لا يتعدى أن يكون أملاً بحل سريع سحري، يشابه تماماُ تلك الحلول التي تأتي بفعل القضاء والقدر في المسلسلات العربية، لا يتصدر أي شريط أخباري، بل على العكس، يصر الشريط الإخباري العاجل على أن يمتلأ بكل ما يغث ويبعث على الضيق يومياً...
يحاول بعض المهاجرين والأصدقاء والمغتربين أن يخففوا عنا نحن المنفيون قسراً، بتوصيف غربتهم أو هجرتهم أو حتى فقدانهم لأشخاص مروا بحياتهم، لكنهم لا يعلمون الفرق بين أن توضب حقيبتك بهدوء وتقرر البحث عن فرصة أخرى للعمل وتحصيل المال وحياة أفضل، وبين أن تخرج في ليلة ظلماء دون ارادة حرة منك وبعكس ما يريد قلبك وعقلك، ودون ان يكون لديك حتى الفرصة لتفكر في هذه الخطوة او لـتأخذ معك في رحلة اللجوء تلك أبسط ما يربطك بماضيك كبعض الصور الفوتوغرافية لأطفالك في مراحل النمو أو صورة اعتادت ان تتصدر جدار المنزل لوجه والدك أو ابتسامة امك، لذاكرة تعود بك لناصية الطريق وللحي الذي جريت به طفلا، أو حتى بيت الجيران والمدرسة، ولا حتى ان تودع اصدقائك او اقاربك بمكالمة صوتيه!
هم لا يعلمون أنك حين تغادر بمثل تلك العجالة لن يتاح لك حتى أن تعطي وعيك واللا وعي اشارة الانتقال الى زمان ومكان مختلفين، بحيث تعيش في منفاك حالة من الهلوسة والبحث المجنون عن أماكن تشبه زاوية ما تركتها هناك في وطنك البعيد ، أو رائحة ما ، التراب المعطر بالمطر لبلدتك البسيطة وربما تفاصيل لم تكن مهمة في حينه كزواية باب ما على ناصية شارع اعتدت أن تمر بجانبه يوميا في مرحلة الطفولة وأنت تجتاز الطريق نحو المدرسة ، أصوات الباعة المتجولين، قرص الفلافل الساخن السابح في الزيت برشاقة، رغيف الخزن المنفوخ والذي خرج للتو من فرن عتيق وتلقفته اصابعك فتراقص بيك راحتيك بينما يبرد قليلا ليتحول الى لقمة عذبة على الطريق..
هم أيضا لايعرفون أننا نحن العالقون في المنفى نعيش حالة من انعدام الجاذبية كرواد الفضاء، لأننا معلقين في مكان ما بين السماء والأرض، نحاول عبثاً أن نمد جذورنا باتجاه الأرض عساها تلامس تربة فتنغرس فيها، وتأبى تلك الجذور أن تصل، لأنها ببساطة ما زالت هناك في الوطن المحرم..
نحن العالقون في المنفى نستيقظ يومياً من أجل التذكر والأجابة على سؤال واحد أين نحن الآن؟
فعقلنا بساحتي الوعي أو اللاوعي يرفض التسليم بوجودنا في مكان آخر، فيقرر تجاهل الزمن لينتصر اللاوعي على الوعي عبردقائق قليلة من فقدان الذاكرة تعبر يومياً في ليلنا القلق!
نحن العالقون في المنفى، تعود بنا تلك الذاكره الى حياة بعيدة في وطن محرم فنستبعث من قضى من أحبائنا ونتحدث اليهم في ساحات الحلم، نعم فمنذ أيام تحدثت مع والدتي وكان حديثاً طويلاً ومحاولة مضنيه لإقناعها بالالتحاق بِنَا هنا في هذي القارة البعيدة، التي شاء القدر أن تكون منفاي البعيد عن وطني سوريا..
قلت لها: "ابنتاكي وأحفادك هنا وأنا أتلهف للقاء". أمي وافقت أخيرا، في تلك اللحظة بالذات استيقظت من النوم ولمت نفسي كثيرا كيف لم أتقدم لها بطلب للالتحاق بِنَا بعد عامنا الأول باللجوء، ثلاثة دقائق كاملة كانت المدة التي تطلبتها الذاكرة لأدرك ان أمي توفت في عام ٢٠١٠
أما أسوأ كوابيسنا هو أن نموت هنا في تلك الأرض البعيدة فلا نحظى بحنين حبات تراب وطننا، ولا بوداع وجوه الأحبة..
ودعوني أعترف: نحن العالقون في المنفى نشعر بالغيرة من أولئك المغتربين أنفسهم الذين يستطيعون ان يقطعوا تذكرة سفرحين يشاؤون ويسافروا لوطننا المحرم ، بينما يحرم علينا دوس ترابه واستنشاق نسيمه لأننا قلنا كلمتنا في زمن الطغاة..
نحن المنفيون الباحثون عن وطن يرافقنا في أعماق الذاكرة والقلب، ويقتلنا بفراق قسري ننتظر أن ينتهي لنعود الى سوريا حيث الشمس والحياة وحيث يكون للموت ان أراد اغلاق صفحة كتابنا الأخير لون آخر..
نحن المنفيون في الارض نريد أن نعود لوطن حر لا نضطر للهرب منه لأننا قررنا أن نقول كلمتنا حرية دون أن تلاحقنا عصابات الموت والظلام لأنظمة الطغاة والمستبدين
نحن المنفيون لدينا وطن ولن نكون لاجئين للأبد!