قد تفسّر الحساسية السورية الحالية، تجاه كل ما يصدر عن موسكو، جانباً من الغضب «المعارض» رداً على تصريح سيرغي ريابكوف الذي اقترح فيه نظاماً فيديرالياً لسورية. إنذار جون كيري بالتقسيم، الذي سبق تصريح ريابكوف، لم يؤخذ بالجدية نفسها، على الأرجح لاستبعاد فرضية التقسيم واعتبارها نوعاً من الابتزاز السياسي ليس إلا.
تتجلى مشكلة المعارضة، وقسم لا يُستهان به من جمهورها، في فهمها المبسّط لمسألة الوطن والمواطنة وسلة الحقوق والواجبات المتعلقة بهما. ضمن هذا الفهم الذي يطرح العدالة للجميع في الحقوق والواجبات، وينص على سيادة دولة القانون، يبرز التساؤل الساذج عما يريده «الآخرون» أكثر من ذلك؟ بالطبع، تساؤل يحجب آخر على الضد منه: إذا كان الحل هكذا، فلماذا لا يكتفي به «الآخرون»؟
يقول الكاتب : نحن إزاء ثغرتين شديدتي الأهمية في النقاش الحالي، أولاهما النظر إلى مفهوم المواطنة كمفهوم كافٍ ووافٍ، في حين تجاوزته الوقائع على الأرض، ولو موقتاً، لمصلحة هيمنة الجماعات الأهلية، الطائفية والإثنية. والثانية تتعلق باقتراح نظام سياسي بديل عن النظام الساقط فعلاً، لئلا يُعاد إنعاشه لعلة عدم وجود البديل، ولأن النظام الحالي وصل نهايته بفعل الثورة عليه، وبفعل التناقضات الاجتماعية التي استوفى الاستثمار فيها، وحانت لحظة انقلابها عليه.
الانتقال إلى دولة المواطنة والفرد يقتضي تحولاً مديداً عن حالة الاحتراب الجماعاتي، ويتطلب مناخاً سياسياً لا يؤبّد سيطرة الجماعات على أفرادها، على شاكلة ما يحصل في نظم المحاصصة. لحل هذا التناقض يلزم اقتراح توازن دستوري دقيق، يحفظ حقوق الجماعات، ولا يسمح لها بالتربع فوق حقوق أفرادها. لنتذكر أن إهمال حقوق الجماعات خلق مشاكل بلغت حد العمل المسلح في نظم يصعب النيل من ديموقراطيتها، والمثالان الباسكي والإيرلندي كافيان للدلالة على ذلك.
ما تنبغي ملاحظته في مجمل النظم الديموقراطية، على اختلافها، ذاك السير الحثيث نحو توزيع السلطة من رأس الهرم إلى قاعدته.
في الحالة السورية، سيكون من المجازفة بعد خمس سنوات من تفكك سلطة المركز افتراض عودة المناطق الخارجة عن السيطرة بإرادة سكانها، على النحو الذي كان سائداً من قبل. هذا يشمل كافة المناطق التي خرجت عن السيطرة، وأيضاً تلك التي اضطر فيها النظام إلى إرخاء قبضته أو إلى منح الجماعات الأهلية فيها بعض الامتيازات. وإذا رأى البعض في الثورة انتفاضة المناطق المهمشة، فالتهميش كان دائماً جوهر مركزية النظام، انقلاب البعث أيضاً أتى باسم التهميش السابق ليعيد الكرة على نحو أسوأ، ومن الملحّ عدم تكرار خطأ البعث.
بالمعنى العميق للشعار، نجحت الثورة في أول أهدافها وهو إسقاط النظام، بدلالة البحث الحالي عن بدائل تتراوح بين تعديله وتقسيم سورية، لكنها فشلت في تحقيق هدفها في إقامة دولة المواطنة. أكثر من ذلك، فقدت تلك الأهداف بريقها لدى نسبة كبيرة من السوريين لمصلحة تطلعات أخرى متباينة في ما بينهم. الإصرار على تلك الأهداف، كما هي، يعني «تقدّم» الواقع على الثورة، مهما بدت مُثُلها أكثر تقدمية منه.
وفي صحف اليوم، نقرأ أيضاً: كتب طارق حميدي من سيخلف «داعش» في صحيفة الشرق الاوسط، و"هل ترى هذه الصورة؟" لجوناثان جونز من صحيفة الغارديان.