طوال عامين ونيف، وبترابط مرجح في نظري مع الصفقة الكيماوية المشينة بين واشنطن وموسكو في أيلول (سبتمبر) 2013، تطوعت وسائل الإعلام الغربية في دعاية مجانية لا تتوقف لـ «داعش». كمّياً جرى تغطيته أكثر من عشرة أضعاف تغطية النظام الأسدي الذي قتل من السوريين أكثر من عشرة أضعاف ما قتل «داعش». وعدا هذا القصف اليومي المتعدد الأشكال بأخبار «داعش» و «تحليلات» عنه، جرى تصويره كعجيبة، كشيء سحري ليس كمثله شيء، منغرس في تعاليمه الخاصة وتكوينه الخاص، وليس قوة دنيوية تُعقل بالمناهج الدنيوية التي يجرى توسلها لفهم القوى الدنيوية الأخرى.
الانطباع العام الذي يخرج به المرء من هذه «التغطية»، هو أن العالم مكون من قوتين: «داعش» الشرير الخطير، وبقية العالم الخير الموحد ضده. وبينما قامت الحداثة جوهرياً على «نزع الصفة السحرية عن العالم» بتعبير ماكس فيبر، وشرح الشؤون الإنسانية بدوافع ومحركات إنسانية، ما جرى حيال «داعش» هو بالضبط إضفاء السحر وتأكيد الفرادة والاستثنائية، الأمر الذي شكل جاذباً قوياً لشبان غربيين، مسلمي الأصول أو حديثي الإسلام، كي ينضموا إلى هذا التكوين الإكزوتيكي الفريد الذي يتوحد العالم كله ضده، يساره ويمينه، ديموقراطيوه ومستبدوه، فاشيوه وليبراليوه، المؤسسات الإسلامية الرسمية والكنيسة الكاثوليكية والإنجيليون القدامى والجدد وسياسيو اليهود ورجال دينهم، من دون نسيان الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وطبعاً المؤسسة الشيعية والدولة الإيرانية وتوابعها.
كانت الحداثة سياسية جداً على الدوام، وسار إسباغ السحر في كل وقت إلى جانب نزع السحر في تاريخها. نزع السحر يقترن مع نزعات المساواة والتسليم بالوحدة البشرية، فيما يقترن السحر مع الامتيازات والسيطرة. الأمر منطقي، فحين يكونون «هم» مثلنا «نحن» في دوافعهم ومحركات أفعالهم، لا يلزم كي نفهمهم إلا أن نعرف شروط حياتهم الجغرافية التاريخية والسياسية، ويغدو تقمصهم والتماهي بهم أمراً ميسوراً. هذا مشروع يستمد شرعيته من محتواه الأخلاقي الرفيع، ومن نجوعه المعرفي والسياسي أيضاً.
وفي حلقة اليوم أيضاً: النظام السوري يفاوض نفسه، براميل بوتين على الأمم المتحدة؟.